أفضل المواقع الشيعية

دعاء في التحميد لله تعالى

 
السجادية

الدعاء مطابق للمصدر

الصحيفة
 

وكان من دعائه (عليه السلام) إذا ابتدأ بالدعاء بدأ بالتحميد لله عز وجل والثناء عليه فقال:

الْحَمْدُ للهِ ٱلأَوَّلِ بِلاَ أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَالآخِرِ بِلاَ آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ، الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أبْصَارُ ٱلنَّاظِرِينَ، وعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوْهامُ الوَاصِفِينَ، ٱبْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الْخَلْقَ ٱبْتِدَاعاً، وَٱخْتَرَعَهُمْ عَلَىٰ مَشِيئَتِهِ ٱخْتِرَاعاً، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إِرَادَتِهِ، وبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ، لا يَمْلِكُونَ تَأْخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إلَيْهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَقَدُّماً إِلَىٰ مَا أَخَّرَهُمْ عَنْهُ، وَجَعَلَ لِكُلِّ رُوْحٍ مِنْهُمْ قُوتاً مَعْلُوماً مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِهِ،

ـــــــــــ

الشرح: (الْحَمْدُ للهِ الأوَّلِ بِلاَ أوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ) فهو سبحانه قبل الأشياء لم يسبقه سابق، حتى أن الزمان والمكان مخلوقان له، فهو قبلهما (وَالآخِرِ بِلاَ آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ) فهو يبقى بعد فناء الأشياء، حيث ترجع الأكوان كأن لم تكن ـ على حالتها قبل الخلقة ـ وفي انعدام الأشياء رأساً أو بقاء بعض المواد والأرواح بعد الإفناء خلاف، كثير من النصوص يؤيد الأول (الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أبْصَارُ النَّاظِرِينَ) فإنه سبحانه يستحيل رؤيته لا في الدنيا ولا في الآخرة (وعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ) أي وصفه كما هو أهله، لا الأوصاف العامة ـ كالعالم والقادر وما أشبه ـ (أَوْهٰامُ الوٰاصِفِينَ) أوهامهم: أي أذهانهم وأفكارهم، فإن الأفكار لا تصل إلى كنه معرفة الله سبحانه (ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الْخَلْقَ ٱبْتِدَاعاً) الابتداع: الخلق بلا سابقة وبلا تعلم من أحد، فإنه سبحانه خلق الخلق بدون أن يتعلم من خالق سابق (وَاخْتَرَعَهُمْ) الاختراع: الشق والكشف، وهذا أعم من الابتداع، وإن كان المفاد واحداً (عَلَىٰ مَشِيئَتِهِ ٱخْتِرٰاعاً، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إِرَادَتِهِ) أي جعلهم كما أراد في الكيفية والخصوصيات، فإن لكل إنسان مزايا خاصة ـ من اللون وكيفية الجسم ومدة العمر وما أشبه ـ (وبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ) لعل المعنى أنه سبحانه ألزم عليهم تكاليف خاصة حيث أحب وكما أراد، فالجملة الأولى للتكوين والجملة الثانية للتشريع (لا يَمْلِكُونَ تَأْخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إلَيْهِ) أي لا يتمكن أحد من البشر أن يتأخر عن المرتبة التي جعلها الله سبحانه له (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَقَدُّماً إِلَىٰ مَا أَخَّرَهُمْ عَنْهُ) بأن يتقدم إلى المرتبة السابقة وقد شاء الله له المرتبة اللاحقة، كأن يجعل نفسه في صنوف الأذكياء وقد خلق من البلهاء أو بالعكس، وهكذا في سائر الشؤون الخلقية (وَجَعَلَ لِكُلِّ رُوْحٍ مِنْهُمْ) أي لكل إنسان (قُوتاً مَعْلُوماً) القوت: ما يأكله الإنسان، أو المراد الأعم من المأكول والملبوس وما أشبه (مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِهِ) وقد عينه له حين قسم الأرزاق للبشر.

ـــــــــــ

لاَ يَنْقُصُ مَنْ زَادَهُ نَاقِصٌ، وَلاَ يَزيْدُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُمُ زَائِدٌ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ أَجَلاً مَوْقُوتاً، وَنَصَبَ لَهُ أَمَداً مَحْدُوداً، يَتَخَطَّىٰ إِلَيْهِ بِأَيَّامِ عُمُرِهِ، وَيَرْهَقُهُ بِأَعْوَامِ دَهْرِهِ، حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَقْصَىٰ أَثَرِهِ، وَاسْتَوْعَبَ حِسَابَ عُمُرِهِ، قَبَضَهُ إِلَىٰ مَا نَدَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَوْفُورِ ثَوَابِهِ، أَوْ مَحْذُورِ عِقَابِهِ، لَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَىٰ، عَدْلاً مِنْهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَظَاهَرَتْ آلاَؤُهُ، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ،

ـــــــــــ

(لا يَنْقُصُ مَنْ زٰادَهُ) الله سبحانه في الرزق (نَاقِصٌ) أي لا يتمكن أحد أو شيء أن ينقص من رزق من أراد الله زيادة رزقه، ونقص: متعد، ولذا يؤتى له بالمفعول، وهو منقوص (وَلا يَزيْدُ مَنْ نَقَصَ) الله في رزقه (مِنْهُمُ زَائِدٌ) فلا يتمكن أحد أن يزيد في رزق من قدّر له نقص الرزق (ثُمَّ ضَرَبَ) وعين (لَهُ فِي الْحَيَاةِ) الدنيا (أَجَلاً) أي مدة معينة يبقى في الحياة، والأجل له اطلاقان: إطلاق على المدة، وإطلاق على نهاية المدة (مَوْقُوتاً) أي معيناً، مشتق من الوقت (وَنَصَبَ) أي جعل (لَهُ أَمَداً) أي مدة (مَحْدُوداً) قد حدّ وعيّن، ولعل الأجل: لمنتهى المدة، والأمد: لتمام المدة (يَتَخَطَّىٰ إِلَيْهِ بِأَيَّامِ عُمُرِهِ) كما يتخطى الإنسان في المسافة حتى يبلغ النهاية، فكأن أيام العمر خطى الإنسان نحو آخر مدته، فإذا انتهت أيام عمره كان واصلاً إلى آخر مدته في الحياة فيموت (وَيَرْهَقُهُ) أي يدنو إليه بسرعة (بِأَعْوَامِ دَهْرِهِ) أعوام: جمع عام، أي بسنوات الدهر المقررة له (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ) الإنسان (أَقْصَىٰ أَثَرِهِ) أي آخر الأثر المقرر له، كأن لكل إنسان خطىً من العمر تنتهي، وهذه الخطى أثر الإنسان في الحياة (وَاسْتَوْعَبَ) الاستيعاب: الاشتمال (حِسَابَ عُمُرِهِ) بأن أتى على جميع ما قدر له من العمر (قَبَضَهُ) أي أخذه الله سبحانه بالإماتة (إِلَىٰ مٰا نَدَبَهُ إِلَيْهِ) أي كلفه به، فإنه سبحانه كلف الإنسان بالواجبات وبترك المحرمات، والمراد بما ندب: نتيجة ما ندب (مِنْ مَوْفُورِ ثَوَابِهِ) أي ثوابه الوافر الكثير لمن أطاع (أَوْ مَحْذُورِ عِقَابِهِ) أي عقابه الذي يحذر منه ويخاف لمن عصى (لَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَآؤُوا بِمَا عَمِلُوا) من الكفر والمعاصي (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَىٰ) [1] أي بالصفة الحسنى، مؤنث أحسن، والمراد بالحسنى: الجنة والثواب، وإنما يجازي سبحانه بما عمل الإنسان (عَدْلاً مِنْهُ) تعالى، إذ العدل أن يكون الجزاء شبيه العمل ومن جنسه (تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ) أي تنزهت صفاته عن النقائص، فإن المراد بالأسماء الصفات، إذ الاسم بمعنى العلامة، والصفة علامة (وَتَظَاهَرَتْ) أي صارت بعضها ظهر بعض وفي عقبها (آلاَؤُهُ) جمع آل بمعنى: النعمة (لاَ يُسْأَلُ) تعالى (عَمَّا يَفْعَلُ) فإنه سبحانه ليس مسؤولاً بحيث يقع في محذور السؤال والجواب، إذ لا مثل له ولا أعلى منه حتى يحاسبه على أعماله (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [2] فإن كل إنسان وحيوان وما أشبه يسأل عن فعله، ولعل قوله: (لا يسأل) كناية عن أن جميع أفعاله على نحو الحكمة والصلاح، فلا موضع لئن يسأل إذ السؤال عن العبث والفوضى.

ـــــــــــ

وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَىٰ مَا أَبْلاَهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ، لَتَصَرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَخَرَجُوا مِنُ حُدُودِ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَىٰ حَدِّ ٱلبَهِيمِيَّةِ، فَكَانُوا كَمَا وَصَفَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً،

ـــــــــــ

(وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ) بأن لم يعطهم قدرة المعرفة (عَلَىٰ مَا أَبْلاَهُمْ) وامتحنهم (مِنْ مِنَنِهِ المُتَتَابِعَةِ) المنن: جمع منّة، بمعنى النعمة، إذ كل نعمة توجب منة على الإنسان (وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ) أي أعطاهم ووسّع عليهم (مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ) التي بعضها ظهر لبعض وفي أثرها وعقبها (لَتَصَرَّفُوا) جواب لو (فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ) إذ المفروض أنهم لا يعرفون الحمد (وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ) أي توسعوا في نيل رزقه والتصرف فيه (فَلَمْ يَشْكُرُوهُ) إذ الشكر فرع المعرفة والمفروض أنهم لا يعرفون حمده (وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ) يتناولون الرزق بدون أن يشكروا (لَخَرَجُوا مِنُ حُدُودِ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَىٰ حَدِّ البَهِيمِيَّةِ) إذ البهيمة لا تشكر لعدم معرفتها، وكذلك يكون الإنسان حينئذ، ولا يخفى أن التشبيه بحسب الظاهر وإلاّ فالبهائم تعرف الإله وتشكره كما قال سبحانه: ﴿وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [3] (فَكَانُوا) لعدم شكرهم (كَمَا وَصَفَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ) إضافة محكم إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي كتابه المحكم الذي لم يطرأ عليه باطل أو نسخ أو ما أشبه (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ) إن: نافية، أي ليس هؤلاء الذين لا يدينون إلاّ كالأنعام في عدم الفهم والإدراك (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [4] إذ الأنعام تعرف مصالحها ومفاسدها والإنسان المنحرف لا يعرف ذلك. ولا يخفى أن الحمد بالنتيجة على هداية الإنسان وعدم جعله كالأنعام.

ـــــــــــ

والْحَمْدُ للهِ عَلَىٰ مَا عَرَّفَنا مِنْ نَفْسِهِ وَأَلْهَمَنَا مِنْ شُكْرِهِ، وَفَتَحَ لَنَا مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ برُبُوبِيَّتِهِ، وَدَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ الإِخْلاَصِ لَهُ فِي تَوْحِيدِهِ، وَجَنَّبَنَا مِنَ الإِلْحَادِ وَٱلشَّكِّ فِي أَمْرِهِ، حَمْداً نُعَمَّرُ بِهِ فِيمَنْ حَمِدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَنَسْبِقُ بِهِ مَنْ سَبَقَ إِلَىٰ رِضَاهُ وَعَفْوِهِ، حَمْداً يُضِيءُ لَنَا بِهِ ظُلُمَاتِ الْبَرْزَخِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْنَا بِهِ سَبِيلَ الْمَبْعَثِ، وَيُشَرِّفُ بِهِ مَنَازِلَنَا عِنْدَ مَوَاقِفِ الأَشْهَادِ،

ـــــــــــ

(والْحَمْدُ للهِ عَلَىٰ مَا عَرَّفَنٰا مِنْ نَفْسِهِ) إذ ما نعرفه من جهاته سبحانه ـ ولو كانت معرفة ناقصة لا تصل الكنه ـ ليس إلا بسبب تعريفه سبحانه وتعليمه لنا (وَأَلْهَمَنَا مِنْ شُكْرِهِ) فإنه ألقى في قلوبنا وجوب شكره، فإن كل إنسان يعرف بالفطرة لزوم شكر المنعم مع الغض عن معلومية ذاته بسبب الأديان والشرائع السماوية (وَفَتَحَ لَنَا مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ) مِن: للتبعيض، أي بعض أبواب العلم (برُبُوبِيَّتِهِ) حتى عرفناه سبحانه رباً لنا ولسائر الموجودات، فإن كل إنسان يعرف بفطرته أن للكون رباً وخالقاً (وَدَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ الإِخْلاَصِ) من: بيان لضمير (عليه) (لَهُ فِي تَوْحِيدِهِ) فإن الله أرشدنا إلى لزوم أن نوحده، ونجعل إله الكون واحداً مخلصاً له العقيدة، لا أن نشرك معه غيره (وَجَنَّبَنٰا) أي بعّدنا بسبب الأدلة والحجج (مِنَ الإِلْحَادِ) أي الانحراف عن الحقيقة (وَالشَّكِّ فِي أَمْرِهِ) حتى نكون شاكين هل هو موجود أم لا؟ وهل هو واحد أم كثير؟ وهكذا (حَمْداً نُعَمَّرُ بِهِ) أي نقضي أعمارنا بهذا الحمد (فِيمَنْ حَمِدَهُ) أي في جملة الذين يحمدونه فنكون كأحدهم، لا في جملة الملحدين والشاكين (مِنْ خَلْقِهِ) من: بيان (من حمده) (وَنَسْبِقُ بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (مَنْ سَبَقَ إِلَىٰ رِضَاهُ) تعالى أي نكون سابقاً على من سبق، لأن حمدنا أكثر من حمدهم فنكون أسبق إلى نيل رضاه، ولا يخفى أن هذا إنشاء لبيان قدر ما ينطوي عليه الحامد من حب الله ومدحه، فلا يلزم السبق في الخارج حتى يقال: كيف يسبق الإنسان الأنبياء ومن إليهم؟ (وَعَفْوِهِ) بأن يعفو عنا ذنوبنا بسبب حمدنا له (حَمْداً يُضِيءُ لَنَا بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (ظُلُمَاتِ البَرْزَخِ) البرزخ: هو المحل الواسط بين الدنيا والآخرة، ويريد الداعي أنه بسبب حمده يتفضل سبحانه بإنارة البرزخ له (وَيُسَهِّلُ عَلَيْنَا) الله سبحانه (بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (سَبِيلَ الْمَبْعَثِ) أي طريق يوم القيامة حتى لا نسلك فيه مسلك المجرمين (وَيُشَرِّفُ بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (مَنَازِلَنَا) في الآخرة (عِنْدَ مَوَاقِفِ الأَشْهَادِ) جمع شاهد، أي يكون لنا موقفاً شريفاً حسناً حين يحضر الناس في القيامة ليشهد الشهود لهم أو عليهم، فإذا شهدوا له كان له موقف شريف، وإذا شهدوا عليه كان له موقف مخزي ومذل.

ـــــــــــ

يَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ، يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ، حَمْداً يَرْتَفِعُ مِنَّا إِلَىٰ أَعْلَىٰ عِلِّيِّينَ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، حَمْداً تَقَرُّ بِهِ عُيُونُنَا إِذَا بَرِقَتِ الأَبْصَارُ، وَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُنَا إِذَا ٱسْوَدَّتِ الأَبْشَارُ،

ـــــــــــ

(يَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) إن خيراً فخير وإن شراً فشر (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [5] بهضم حسناتهم أو زيادة سيئاتهم (يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً) المولى: الصديق والناصر، أي لا ينفع صديق لصديقه شيئاً، بأن يزيد في حسناته أو يقلل من سيئاته (وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ) [6] فلا يتمكن أحد أن ينصر أحداً، بل الذي ينجي الإنسان هناك العمل الصالح والشفاعة (حَمْداً يَرْتَفِعُ) ذلك الحمد (مِنَّا) أي من جهتنا (إِلَىٰ أَعْلَىٰ عِلِّيِّينَ) العليون : كتاب يكتب فيه الأعمال الصالحة للناس، والكتابة في أعلاه دليل القبول الكامل (فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ) قد رقم وكتب (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [7] فإن هذا كتاب بأيدي الملائكة المقربين الذين قربهم سبحانه إلى رضاه ولطفه (حَمْداً تَقَرُّ بِهِ عُيُونُنَا) فإن الإنسان إذا كان فرحاً مسروراً تقف عينه عن الحركة، بخلاف الخائف الذي تضطرب عينه إلى هنا وهناك (إِذَا بَرِقَتِ الأَبْصَارُ) برق البصر بمعنى تحير فزعاً حتى لا تطرف أو دهش فلم يبصر، فإن الإنسان إذا دهش دهشة كبيرة لم تصل الروح إلى العين لتبصر. وإذا كان أقل دهشة لم يتمالك أن يحرك طرفه (وَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُنَا) فإن الوجوه تبيض بالنور والإشراق يوم القيامة إذا كان أصحابها حسني الأفعال في الدنيا، وتسود حزناً وكآبة إذا كان أصحابها سيئي الأفعال (إِذَا اسْوَدَّتِ الأَبْشَارُ) أبشار: جمع بشر ـ وزن سبب وأسباب ـ وبشر جمع بشرة وهي ظاهر جلد الإنسان نحمده.

ـــــــــــ

حَمْداً نُعْتَقُ بِهِ مِنْ أَلِيمِ نَارِ ٱللهِ إِلَىٰ كَرِيمِ جِوارِ ٱللهِ، حَمْداً نُزَاحِمُ بِهِ مَلاَئِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ، وَنُضَامُّ بِهِ أنْبِياءَهُ الْمُرْسَلِينَ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ الَّتِي لاَ تَزَولُ، ومَحَلِّ كَرَامَتِهِ الَّتِي لاَ تَحُولُ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي ٱخْتَارَ لَنَا مَحَاسِنَ الْخَلْقِ وَأَجْرَىٰ عَلَيْنَا طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ، وَجَعَلَ لَنَا ٱلفَضِيلَةَ بِالْمَلَكَةِ عَلَىٰ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ خَلِيقَتِهِ مُنْقَادَةٌ لَنَا بِقُدْرَتِهِ،

ـــــــــــ

(حَمْداً نُعْتَقُ بِهِ) ونفك (مِنْ أَلِيمِ نَارِ اللهِ) أي نار الله المؤلمة، بحيث ننتهي (إِلَىٰ كَرِيمِ جِوٰارِ اللهِ) جوار الله المحل الذي يلطف الله سبحانه على الإنسان في ذلك المحل، وهو تشبيه للمعقول بالمحسوس، فكما أن الإنسان إذا كان في جوار زعيم كبير يكون مشمولاً لحفظه ولطفه، كذلك من كان عند لطف الله وإحسانه، وكريم الجوار، من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الجوار صاحب الكرامة ـ مقابل الاهانة ـ ثم إن الحمد لما كان باللسان وبالقلب وبالعمل، كان سبباً للعتق من النار، والفوز بالجنة فالإمام (عليه السلام) يطلب منه تعالى أن يوفّقه لمثل هذا الحمد، لا مجرد حمد اللسان ـ مثلاً ـ (حَمْداً نُزَاحِمُ بِهِ) أي بذلك الحمد (مَلاَئِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ) والمزاحمة كناية عن الحمد المشابه لحمد الملائكة، والأصل في المزاحمة وحدة المطلوب مع تعدد الطالب، ومن المعلوم أن الحمد ليس شيئاً محصوراً حتى تقع فيه المزاحمة بمعناها الحقيقي (وَنُضَامُّ بِهِ) أي بذلك الحمد، ونضام من الضم بمعنى الجمع، ونضام بمعنى: ننضم (أنْبِياءَهُ المُرْسَلِينَ) حتى نجتمع معهم (فِي دَارِ الْمُقَامَةِ) حيث الشرف الأبدي بمرافقة الأنبياء (الَّتِي لاَ تَزَولُ) فإن الجنة أبدية (ومَحَلِّ كَرَامَتِهِ) أي المحل الذي أكرمه ويكرم من كان فيه، وهو الجنة (الَّتِي لاَ تَحُولُ) أي لا تتحول، فليست مثل دار الدنيا التي تتحول من حال إلى حال (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي ٱخْتَارَ لَنَا مَحَاسِنَ الْخَلْقِ) أي اختار لنا الخلق الحسن (وَأَجْرَىٰ عَلَيْنَا طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ) إجراء الرزق جعله مستمراً جارياً، كالنهر الجاري، والطيب ما يستطاب ويلائم الطبع، والمراد بالرزق أعم من المأكل والملبس وما أشبههما من حاجات الإنسان (وَجَعَلَ لَنَا ٱلفَضِيلَةَ بِالْمَلَكَةِ عَلَىٰ جَمِيعِ الْخَلْقِ) أي جعل لنا نحن البشر أفضلية على جميع خلقه، بأن ملكنا ما لم يملكهم من العقل وسائر الممتلكات، فإن الإنسان ـ لطبعه ـ أفضل من جميع الموجودات (فَكُلُّ خَلِيقَتِهِ) أي كل خلق الله تعالى (مُنْقَادَةٌ لَنَا بِقُدْرَتِهِ) والانقياد معناه الحركة لأجلنا فإن الشمس والقمر والأفلاك وغيرها تسير لمصلحة الإنسان.

ـــــــــــ

وَصَائِرَةٌ إِلَىٰ طَاعَتِنَا بِعِزَّتِهِ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَغْلَقَ عَنَّا بَابَ الْحَاجَةِ إِلاَّ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ نُطِيقُ حَمْدَهُ؟، أَمْ مَتَىٰ نُؤَدِّي شُكْرَهُ؟! لاَ، مَتَىٰ؟، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَكَّبَ فِينَا آلاَتِ الْبَسْطِ، وَجَعَلَ لَنَا أَدَوَاتِ الْقَبْضِ، وَمَتَّعَنَا بِأَرْواحِ الْحَياةِ، وَأَثْبَِتَ فِينَا جَوَارِحَ الأَعْمَالِ،

ـــــــــــ

(وَصَآئِرَةٌ إِلَىٰ طَاعَتِنَا) فإن الإنسان يتصرف في الأرض وما عليها ـ كأنها مطيعة له ـ (بِعِزَّتِهِ) أي بسبب أنه سبحانه عزيز قادر على كل شيء (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَغْلَقَ عَنَّا بَابَ الْحَاجَةِ إِلاَّ إِلَيْهِ) فإنه سبحانه لم يجعلنا محتاجين إلى واسطة، بل يقضي حوائجنا بنفسه، وقد كان بالإمكان، أن يكون الله كالملوك الذين لا يرون حوائج الناس إلا بواسطة الوزراء ومن إليهم (فَـ) بعد هذه النعم العظام (فَكَيْفَ نُطِيقُ حَمْدَهُ) ؟ إذ الحمد إنما يكون كافياً إذا كان مكافئاً، وهيهات أن يتمكن الإنسان من الإتيان بالحمد بقدرٍ كافٍ، فإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها (أَمْ مَتَىٰ) وفي أي زمان (نُؤَدِّي شُكْرَهُ) ؟ وزمان عمر الإنسان أقصر من القدر اللائق من شكره سبحانه (لاَ، مَتَىٰ) جملة مستأنفة لجواب الاستفهام، أي لا يمكن تأدية شكره (وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَكَّبَ فِينَا) أي جعل في أبداننا (آلاَتِ البَسْطِ) أي أجهزة نتمكن بها من بسط بعض أعضاء الجسم، كاليد والرجل وما أشبه (وَجَعَلَ لَنَا أَدَوَاتِ القَبْضِ) أي الانقباض، فإن اليد ـ مثلاً ـ تنبسط وتنقبض، ولو لم يتمكن الإنسان من كليهما، أو من أحدهما، لتوقف كثير من أعماله وحوائجه (وَمَتَّعَنَا بِأَرْوٰاحِ الْحَيٰاةِ) أي أعطانا للمتعة والتلذذ أرواحاً هي التي تسبب حياة الإنسان، كالروح الباعث للشهوة أو للغضب أو للقوة، وما أشبه، مما يتوقف حياة الإنسان الكاملة على تلك الأرواح (وَأَثْبَِتَ فِينَا جَوَارِحَ الأَعْمَالِ) جوارح جمع جارحة وهي اليد والرجل وسائر ما يعمل بها الإنسان من أعضائه ومعنى الجرح في الأصل العمل باليد، ومنه جوارح الطير لأنها تكسب بيدها، والمعنى جعل فينا الجوارح التي بها نعمل الأشياء التي نريدها.

ـــــــــــ

وَغَذَّانَا بِطَيِّبَاتِ ٱلرِّزْقِ، وَأَغْنَانَا بفَضْلِهِ، وَأَقْنَانَا بِمَنِّهِ، ثُمَّ أَمَرَنَا لِيَخْتَبِرَ طَاعَتَنَا، وَنَهَانَا لِيَبْتَلِيَ شُكْرَنَا، فَخَالَفْنَا عَنْ طَرِيقِ أَمْرِهِ، وَرَكِبْنَا مُتُونَ زَجْرِهِ فَلَمْ يَبْتَدِرْنا بِعُقُوبَتِهِ وَلَمْ يُعَاجِلْنَا بِنِقْمَتِهِ، بَلْ تَأَنَّانا بِرَحْمَتِهِ تَكَرُّماً، وَانْتَظَرَ مُرَاجَعَتَنَا بِرَأْفَتِهِ حِلْماً،

ـــــــــــ

(وَغَذَّانَا بِطَيِّبَاتِ الرِّزْقِ) أي جعل غذاءنا أقساماً من الرزق الطيب، والرزق أعم من المأكل والملبس والمسكن وما أشبه، كما أن الطيب مقابل الخبيث، وهو ما لا يستقذره الطبع (وَأَغْنٰانَا بفَضْلِهِ) أي جعلنا أغنياء لا نحتاج إلى غيره، وذلك الإغناء ليس استحقاقاً منا بل فضلاً وإحساناً منه (وَأَقْنٰانَا) من القنية بمعنى المال المدخر الذي يدخره الإنسان (بِمَنِّهِ) أي بكرمه فإنه سبحانه ادخر لنا الكنوز والمعادن وغيرهما لمصالحنا وهذا تلميح إلى قوله سبحانه: ﴿أنه هو أغنى وأقنى [8] (ثُمَّ أَمَرَنَا) بأوامره (لِيَخْتَبِرَ) أي يمتحن (طَاعَتَنَا) هل نطيع أم لا؟ وفائدة الاختبار لنا لا له سبحانه لأنه عالم بكل شيء (وَنَهَانَا) عن المحرمات (لِيَبْتَلِيَ) ويمتحن (شُكْرَنَا) هل نشكر بترك نواهيه أم لا؟ فإن من الشكر العملي الانتهاء عن النواهي (فَخَالَفْنَا عَنْ طَرِيقِ أَمْرِهِ) بالذهاب إلى خلاف الطريق المؤدي إلى الأمر (وَرَكِبْنٰا مُتُونَ) جمع متن بمعنى الظهر (زَجْرِهِ) أي نهيه، شبه المنهي بالراحلة التي لها متن، إذا ركبها الإنسان تؤدي به إلى النار (فَلَمْ يَبْتَدِرْنٰا) أي لم يبادر جل شأنه (بِعُقُوبَتِهِ) فلم يعاقبنا بمجرد صدور المنهيات عنا (وَلَمْ يُعَاجِلْنَا بِنِقْمَتِهِ) أي لم ينزل نقمته علينا عاجلاً سريعاً بمجرد ارتكابنا لنهيه (بَلْ تَأَنَّانٰا) من التأني بمعنى الصبر والتأخير، تأنى في الأمر إذا لم يعجل (بِرَحْمَتِهِ) أي إرجاء عقوبتنا حيث رحمنا وتفضل علينا (تَكَرُّماً) وكان هذا التأني لمجرد الكرم والفضل منه (وَانْتَظَرَ مُرَاجَعَتَنَا) أي لعلنا نرجع عن العصيان بالاستغفار والتدارك (بِرَأْفَتِهِ) أي رحمته ـ والرأفة أدق معنى من الرحمة ـ (حِلْماً) أي لسبب حلمه علينا ـ ولا يخفى أن الرحمة والرأفة وما أشبههما يراد بها في الله سبحانه: غاياتها، كما قيل: خذ الغايات واترك المبادئ.

ـــــــــــ

وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي دَلَّنَا عَلَىٰ ٱلتَّوْبَةِ، الَّتِي لَمْ نُفِدْهَا إِلاَّ مِنْ فَضْلِهِ فَلَوْ لَمْ نَعْتَدِدْ مِنْ فَضْلِهِ إِلاَّ بِهَا، لَقَدْ حَسُنَ بَلاَؤُهُ عِنْدَنَا وَجَلَّ إِحْسَانُهُ إِلَيْنَا، وَجَسُمَ فَضْلُهُ عَلَيْنَا، فَمَا هٰكَذَا كَانَتْ سُنَّتُهُ فِي التَّوْبَةِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، لَقَدْ وَضَعَ عَنَّا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْنَا إِلاَّ وُسْعاً، وَلَمْ يُجَشِّمْنَا إِلاَّ يُسْراً، وَلَمْ يَدَعْ لأَحَدٍ مِنَّا حُجَّةً وَلاَ عُذْراً، فَالْهَالِكُ مِنَّا مَنْ هَلَكَ عَلَيْهِ، وَالسَّعِيدُ مِنَّا مَنْ رَغِبَ إلَيْهِ،

ـــــــــــ

(وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي دَلَّنَا) وأرشدنا (عَلَىٰ التَّوْبَةِ) فإنه سبحانه هو الذي فتح باب التوبة للعاصي وأرشد العصاة على لسان أنبيائه (الَّتِي لَمْ نُفِدْهَا إِلاَّ مِنْ فَضْلِهِ) إذ فضله هو الذي سبب أن نستفيد بالتوبة ولولا فضله لكان العقاب جزاء المعصية بدون فائدة للتوبة في رفعه (فَلَوْ لَمْ نَعْتَدِدْ) من العد بمعنى الحساب أي لو لم نعدد ونذكر في التعداد (مِنْ فَضْلِهِ) وسبحانه (إِلاَّ بِهَا) أي بالتوبة ـ وإنما جيء بالباء لاشتمال الاعتداد على معنى الاتكاء: أي لو كان فضله خاصاً لقبوله التوبة (لَقَدْ حَسُنَ بَلآؤُهُ عِنْدَنَا) هذا جواب [لو] أي لكان بلاؤه وإحسانه عندنا شيئاً حسناً (وَجَلَّ) أي كبر (إِحْسَانُهُ إِلَيْنَا) هذا عطف على جواب [لو] (وَجَسُمَ) أي عظم (فَضْلُهُ عَلَيْنَا) وهذا أيضاً عطف على الجواب ثم علل (عليه السلام)، كون قبوله تعالى فضلاً جسيماً بقوله (فَمَا هٰكَذَا كَانَتْ سُنَّتُهُ) وطريقته تعالى (فِي) قبول (التَّوْبَةِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا) مثلاً لم يقبل سبحانه توبة بني إسرائيل في عبادة العجل إلاّ بعد أن قتلوا كثيراً من نفوسهم، كما قال تعالى ﴿فاقتلوا أنفسكم [9] (لَقَدْ وَضَعَ) وأسقط (عَنَّا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) فلم يشدد علينا كما شدد على اليهود، ويقال: لا طاقة: بمعنى الشدة، لا عدم الطاقة مطلقاً، فإنه أجل من التكليف بما لا يطاق (وَلَمْ يُكَلِّفْنَا إِلاَّ وُسْعاً) أي ما فيه سعة علينا بدون كثير شدة (وَلَمْ يُجَشِّمْنَا) التجشيم: التكليف الشاق (إِلاَّ يُسْراً) أي بل كلفنا يسراً كما قال تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [10] (وَلَمْ يَدَعْ لأَحَدٍ مِنَّا) معاشر المكلفين (حُجَّةً وَلاَ عُذْراً) لأنه سبحانه أبلغنا التكاليف، فإذا تركناها كان الترك بدون حجة أو عذر، بل عصياناً محضاً (فَالْهَالِكُ مِنَّا) بذنوبه ومعاصيه (مَنْ هَلَكَ عَلَيْهِ) أي على أنه أتم الحجة، فالهلاك على هذا النحو لا على نحو المفاجآت، وبدون قبول التوبة (وَالسَّعِيدُ مِنَّا مَنْ رَغِبَ إلَيْهِ) أي إلى الله تعالى، ومعنى الرغبة إليه طلب ما عنده، كالراغب في الشيء المحبوب.

ـــــــــــ

وَالْحَمْدُ للهِ بِكُلِّ مَا حَمَدَهُ بِهِ أَدْنَىٰ مَلاَئِكَتِهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَمُ خَلِيقَتِهِ عَلَيْهِ وَأَرْضَىٰ حَامِدِيهِ لَدَيْهِ، حَمْداً يَفْضُلُ سَائِرَ الْحَمْدِ كَفَضْلِ رَبِّنَا عَلَىٰ جَمِيعِ خَلْقِهِ، ثُمَّ لَهُ الْحَمْدُ مَكَانَ كُلِّ نِعْمَةٍ لَهُ عَلَيْنَا وَعَلَىٰ جَمِيعِ عِبَادِهِ الْمَاضِينَ والْبَاقِينَ، عَدَدَ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَمِيعِ الأَشْيَاءِ، وَمَكَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَدَدُهَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةًً أَبَداً سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ القِيَامَةِ،

ـــــــــــ

(وَالْحَمْدُ للهِ بِكُلِّ مَا حَمَدَهُ بِهِ) أي بمثل كل حمد حمده (أَدْنَىٰ) وأقرب وأشرف (مَلآئِكَتِهِ إِلَيْهِ) دنواً بالفضيلة والشرف (وَأَكْرَمُ خَلِيقَتِهِ) أي خلقه (عَلَيْهِ) وهم الأنبياء والأوصياء والأولياء (وَأَرْضَىٰ حَامِدِيهِ لَدَيْهِ) أي الحامد الذي هو تعالى أكثر رضاء منه، بالنسبة إلى سائر الحامدين، أحمده (حَمْداً يَفْضُلُ سَآئِرَ الْحَمْدِ) فيكون حمدي أفضل من حمد غيري، لا في الكم والكيف، بل في الإرادة القلبية، ولا ينافي هذا الفقرة السابقة، أي بكل حمد لأن الفقرة الأولى من حيث الكم وهذا من حيث الكيف (َفَضْلِ رَبِّنَا عَلَىٰ جَمِيعِ خَلْقِهِ) أي تكون نسبة الأفضلية في البعد، كهذه النسبة (ثُمَّ) للاستئناف (لَهُ) تعالى (الْحَمْدُ مَكَانَ كُلِّ نِعْمَةٍ لَهُ عَلَيْنَا وَعَلَىٰ جَمِيعِ عِبَادِهِ) هذا من حيث إفراد الحمد حسب النعم، و(بكل ما حمده) من حيث أفراد الحامدين، و(حمداً يفضل) من حيث كيفية الحمد (الْمَاضِينَ والْبَاقِينَ) أي السابقين والحاضرين والمستقبلين إذ كل من الأخيرين داخل في الباقي (عَدَدَ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَمِيعِ الأَشْيَاءِ) أي أعد حمده بهذا العدد، فبكل جزئي أحاط علم الله به، أحمده حمداً عدده (بكل ما حمده) و(مكان كل نعمة) وكيفيته (كفضل ربنا) بيان ما أحاط (وَمَكَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا) حتى أن الحامد حمد الله سبحانه لكل نعمة أنعم بها على سائر البشر، أي في مقابلها، وهذا غير عددها، فإن الإنسان قد يقول: أحمد الله بعدد هذه القصور، وقد يقول: أحمده لمكان هذه القصور، أي لأجل تفضله بهذه القصور على أصحابها (عَدَدُهَا) أي أعد عدد تلك المحامد (أَضْعَافاً مُضَاعَفَةًً) فليس لكل عدد حمد وإنما لكل عدد أضعاف أضعافه من الحمد (أَبَداً سَرْمَداً) أي يكون الحمد باقياً (إِلَىٰ يَوْمِ القِيَامَةِ) فلا ينقطع الحمد مني له سبحانه.

ـــــــــــ

حَمْداً لاَ مُنْتَهَىٰ لِحَدِّهِ وَلاَ حِسَابَ لِعَدَدِهِ، وَلاَ مَبْلَغَ لِغَايَتِهِ، وَلاَ ٱنْقِطَاعَ لأَمَدِهِ، حَمْداً يَكُوْنُ وُصْلَةًً إِلَىٰ طَاعَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَسَبَباً إِلَىٰ رِضْوَانِهِ، وَذَرِيعَةً إِلَىٰ مَغْفِرَتِهِ، وَطَرِيقاً إِلَىٰ جَنَّتِهِ، وَخَفِيراً مِنْ نَقِمَتِهِ، وَأَمْناً مِنْ غَضَبِهِ، وَظَهِيراً عَلَىٰ طَاعَتِهِ، وَحَاجِزاً عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَعَوْناً عَلَىٰ تَأْدِيَةِ حَقِّهِ وَوَظـٰائِفِهِ، حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ فِي السُّعَدَاءِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَنَصِيرُ بِهِ فِي نَظْمِ الشُّهَدَاءِ بِسُيُوفِ أَعْدَائِهِ، إِنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيدٌ.

ـــــــــــ

(حَمْداً لاَ مُنْتَهَىٰ لِحَدِّهِ) من جهة الكيفية والحسن (وَلاَ حِسَابَ لِعَدَدِهِ) من جهة الكمية (وَلاَ مَبْلَغَ لِغَايَتِهِ) من جهة البقاء والدوام (وَلاَ انْقِطَاعَ لأَمَدِهِ) عبارة أخرى عن الجملة السابقة، وقد تقدم أن المراد بمثل هذه المحامد إظهار ما في النفس من كثرة حب المادح له تعالى، حتى لا يتمكن إلا بالإشارة إلى تلك الكثرة ولا يتسنى له البسط لعدم القدرة، كما إذا قلت: أحبه ألف حب، تريد بذلك إظهار مقدار حبك له حتى أنه ألف مثل حب الناس بعضهم لبعض، فتشير إلى ذلك بهذه اللفظة (حَمْداً يَكُوْنُ وُصْلَةًً) أي موصلاً (إِلَىٰ طَاعَتِهِ) فإن الإنسان إذا حمده سبحانه وفقه الله تعالى لطاعته (وَعَفْوِهِ) عن سيئاته (وَسَبَباً إِلَىٰ رِضْوَانِهِ) أي رضاه تعالى من الحامد (وَذَرِيعَةً) أي وسيلة (إِلَىٰ مَغْفِرَتِهِ) أي غفرانه وستره لذنوب الحامد (وَطَرِيقاً إِلَىٰ جَنَّتِهِ) فإن هذا الحمد يكون سبباً لدخول الجنة، فكأنه طريق إليها (وَخَفِيراً) أي مجيراً (مِنْ نَقِمَتِهِ) أي عقابه (وَأَمْناً مِنْ غَضَبِهِ) فيأمن الحامد من ان يغضب عليه سبحانه (وَظَهِيراً عَلَىٰ طَاعَتِهِ) أي يكون ذلك الحمد معيناً للإنسان في طاعة الله تعالى، إذ الحمد يوجب التوفيق (وَحَاجِزاً) أي مانعاً (عَنْ مَعْصِيَتِهِ) فيحول ذلك الحمد بين الإنسان وبين المعاصي بصرف إرادته عن الإتيان بها (وَعَوْناً عَلَىٰ تَأْدِيَةِ حَقِّهِ) أي أداء حق الله تعالى، وحقه الإتيان بالواجبات والترك للمحرمات (وَوَظـٰائِفِهِ) أي تكاليفه التي أمر الناس بها (حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ فِي) جملة (السُّعَدَآءِ مِنْ أَوْلِيَآئِهِ) وأحبائه، حتى نكون بسبب ذلك الحمد في جملتهم (وَنَصِيرُ بِهِ) أي بسبب ذلك الحمد (فِي نَظْمِ الشُّهَدَآءِ) أي ننتظم ونجتمع معهم في الثواب والفضيلة (بِسُيُوفِ أَعْدَآئِهِ) حتى يكون لنا من الأجر مثل ما لهم (إِنَّهُ) تعالى (وَلِيٌّ) أي ناصر للإنسان ومحب له (حَمِيدٌ) أي محمود في ولايته وأعماله.

ـــــــــــ

[1] ـ إشارة إلى سورة النجم، آية 31.

[2] ـ إشارة إلى سورة الأنبياء، آية: 23.

[3] ـ سورة الإسراء، آية: 44.

[4] ـ سورة الفرقان، آية: 44.

[5] ـ إشارة إلى سورة غافر، آية: 17، وهي (اليوم تجزى كل نفس ...).

[6] ـ سورة الدخان، آية: 41.

[7] ـ سورة المطففين، آية: 20 و21.

[8] ـ سورة النجم، آية: 48.

[9] ـ سورة البقرة، آية: 54.

[10] ـ سورة البقرة، آية: 185.