القول في نسب أمير المؤمنين عليه السلام وذكر لمع من فضائله

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

[*] هو أبو الحسن عليّ بن أبي طالب-واسمه عبد مناف-بن عبد المطلب- واسمه شيبة-ابن هاشم-واسمه عمرو-بن عبد مناف بن قصيّ. الغالب عليه من الكنية عليه السلام أبو الحسن. وكان ابنه الحسن عليه السلام يدعوه في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أبا الحسين، ويدعوه الحسين عليه السلام: أبا الحسن، ويدعوان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أباهما، فلما توفّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دعواه بأبيهما.

وكنّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أبا التراب، وجده نائما في تراب، قد سقط عنه رداؤه، وأصاب التراب جسده، فجاء حتى جلس عند رأسه، وأيقظه، وجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول له: اجلس، إنّما أنت أبو تراب. فكانت من أحب كناه إليه صلوات الله عليه، وكان يفرح إذا دعي بها، وكانت ترغّب بنو أمية خطباءها أن يسبّوه بها على المنابر، وجعلوها نقيصة له ووصمة عليه، فكأنما كسوه بها الحليّ والحلل، كما قال الحسن البصريّ رحمه الله.

وكان اسمه الأول الذي سمتّه به أمه حيدرة، باسم أبيها أسد بن هاشم -والحيدرة: الأسد- فغيّر أبوه إسمه وسمّاه عليّا.

وقيل: إن حيدرة اسم كانت قريش تسمّيه به. والقول الأول أصحّ، يدلّ عليه خبره يوم برز إليه مرحب، وارتجز عليه فقال:

أنا الذي سمّتني أمّي مرحبا

فأجابه عليه السلام رجزا:

أنا الذي سمتّني أمي حيدرة

ورجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره.

وتزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ « أمير المؤمنين »، خاطبه بذلك جلّة المهاجرين والأنصار. ولم يثبت ذلك في أخبار المحدثين، إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى، وإن لم يكن اللفظ بعينه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له: "أنت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة". وفي رواية أخرى: "هذا يعسوب المؤمنين، وقائد الغرّ المحجّلين". واليعسوب: ذكر النّحل وأميرها. روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في « المسند » في كتابه « فضائل الصحابة »، ورواهما أبو نعيم الحافظ في « حلية الأولياء ».

ودعي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوصيّ رسول الله، لوصايته إليه بما أراده. وأصحابنا لا ينكرون ذلك، ولكن يقولون: إنها لم تكن وصية بالخلافة، بل بكثير من المتجدّدات بعده، أفضى بها إليه عليه السلام. وسنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد.

وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، أوّل هاشمية ولدت لهاشميّ، كان عليّ عليه السلام أصغر بنيها، وجعفر أسنّ منه بعشر سنين، وعقيل أسنّ من جعفر بعشر سنين، وطالب أسنّ من عقيل بعشر سنين، وفاطمة بنت أسد أمّهم جميعا.

وأمّ فاطمة بنت أسد، فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيصة ابن عامر بن لؤيّ. وأمها حديّة بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر. وأمّها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤيّ. وأمّها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر. وأمّها عاتكة بنت أبي همهمة، واسمه عمرو بن عبد العزّى بن عامر بن عميره بن وديعة بن الحارث ابن فهر، وأمّها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب ابن لؤي، وأمّها حبيبة، وهي أمة الله بنت عبد يليل بن سالم بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. وأمّها ريطة بنت يسار بن مالك بن جشم بن ثقيف. وأمّها كلّة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن وأمّها حبّي بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن. ذكر هذا النسب أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهاني في كتاب « مقاتل الطالبيين ».

أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين، وكانت الحادية عشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرمها ويعظّمها ويدعوها: أمي، وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيّتها، وصلّى عليها، ونزل في لحدها، واضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه، فقال له أصحابه: إنّا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها، فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر.

وفاطمة أوّل امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء.

وأمّ أبي طالب بن عبد المطلب، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وهي أمّ عبد الله، والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّ الزبير بن عبد المطلب، وسائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى.

واختلف في سنّة حين أظهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة، إذ تكامل له صلوات الله عليه أربعون سنة، فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر. وكثير من أصحابنا المتكلمين يقولون: إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخيّ وغيره من شيوخنا.

والأوّلون يقولون: إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهؤلاء يقولون: ابن ستّ وستين، والروايات في ذلك مختلفة. ومن الناس من يزعم أن سنّه كانت دون العشر، والأكثر الأظهر خلاف ذلك.

وذكر أحمد بن يحيى البلاذري وعلي بن الحسين الإصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمّيه: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟. فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم فقال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم. وكان شديد الحبّ لعقيل. فأخذ العباس طالبا، وأخذ حمزة جعفرا، وأخذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليّا، وقال لهم: قد اخترت -من اختاره الله لي عليكم- عليّا، قالوا: فكان عليّ عليه السلام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منذ كان عمره ستّ سنين.

وكان ما يسدي إليه صلوات الله عليه من إحسانه وشفقته وبرّه وحسن تربيته، كالمكافأة والمعاوضة لصنيع أبي طالب به، حيث مات عبد المطلب وجعله في حجره. وهذا يطابق قوله عليه السلام: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين. وقوله: كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار والتبليغ، وذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبيه وهو ابن ستّ، فقد صحّ أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين، وابن ستّ تصحّ منه العبادة إذا كان ذا تمييز، على أنّ عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب، واستخذاء الجوارح، إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة، ومثل هذا موجود في الصبيان.

وقتل عليه السلام ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان، سنة أربعين في رواية أبي عبد الرحمن السّلميّ -وهي الرواية المشهورة- وفي رواية أبي مخنف: أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان، وعليه الشيعة في زماننا.

والقول الأول أثبت عند المحدثين. والليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر، وقد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليلة بدر. وقبره بالغريّ.

فأما فضائله عليه السلام، فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرّض لذكرها، والتصدّي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكّل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصّر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.

وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا، حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّا، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه، وكلّما كتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تستر بالرّاح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة.

وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلّى حلبتها، كل من بزع فيها فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى.

وقد عرفت أنّ أشرف العلوم، هو العلم الإلهيّ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه عليه السلام اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى.

فإن المعتزلة -الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلّم الناس هذا الفن- تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه السلام.

وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلّمهم، وهو عليّ ابن أبي طالب عليه السلام.

وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

ومن العلوم علم الفقه، وهو عليه السلام أصله وأساسه، وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.

أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة. وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام، وينتهي الأمر إلى عليّ عليه السلام.

وأما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ عبد الله بن عباس على عليّ بن أبي طالب.

وإن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر.

وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا: عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذ عن علي عليه السلام. أمّا ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرّة: « لولا علي لهلك عمر »، وقوله: « لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن »، وقوله: « لا يفتينّ أحد في المسجد وعلي حاضر ». فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.

وقد روت العامة والخاصة قوله عليه السلام: "أقضاكم علي"، والقضاء هو الفقه، فهو إذا أفقههم. وروى الكلّ أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا: "اللهم أهد قلبه وثبّت لسانه"، قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين، وهو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا. وهذه المسألة لو فكّر الفرضيّ فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنّك بمن قاله بديهة، واقتضبه ارتجالا!.

ومن العلوم علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرّع. وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك، لأن أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخرّيجه. وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.

ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوّف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد صرّح بذلك الشبّلي، والجنيد، وسري، وأبو يزيد البسطامي، وأبو محفوظ معروف الكرخي، وغيرهم. ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متّصل إليه عليه السلام.

ومن العلوم علم النّحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: الكلام كلّه ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى: معرفة، ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى: الرفع، والنصب، والجرّ، والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.

وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاّع ثناياها.

*****

وأما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده. ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرّ قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحدا إلاّ قتله، ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث: كانت ضرباته وترا. ولمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلاّ اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي!. وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله      بكيته أبدا ما دمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له           وكان يدعى أبوه بيضة البلد

وانتبه يوما معاوية، فرأى عبد الله بن الزّبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد، فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجُعت بعدنا يا أبا بكر!. قال: وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصفّ إزاء عليّ بن أبي طالب؟!. قال لا جرم، إنّه قتل وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة، يطلب من يقتله بها.

وجملة الأمر أن كلّ شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها.

وأما القوة والأيد فبه يضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في « المعارف »: ما صارع أحدا قطّ إلاّ صرعه.

وهو الذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة، وكان عظيما جدا، وألقاه إلى الأرض. وهو الّذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كلّه عن عنها، وأنبط الماء تحتها.

*****

وأما السخاء والجود فحاله فيه ظاهرة: وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أنزل: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً﴾ "الإنسان-8 و 9". وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلاّ أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم علانية، فأنزل الله فيه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ "البقرة-274".

وروي عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة، حتى مجلت يده، ويتصدق بالأجرة، ويشدّ على بطنه حجرا.

وقال الشعبيّ وقد ذكره عليه السلام: كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبّه الله: السخاء والجود، ما قال: « لا » لسائل قطّ.

وقال عدوّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لمّا قال له: جئتك من عند أبخل الناس، فقال: ويحك! كيف تقول إنه أبخل الناس ولو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفق تبره قبل تبنه.

وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلّي فيها. وهو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء، غرّي غيري، وهو الذي لم يخلف ميراثا، وكانت الدنيا كلّها بيده إلاّ ما كان من الشام.

*****

وأما الحلم والصفح، فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسي‏ء، وقد ظهر صحّة ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم -وكان أعدى الناس له وأشدّهم بغضا- فصفح عنه.

وكان عبد الله بن الزّبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب. وكان عليّ عليه السلام يقول: ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتى شب ولده المشؤوم عبد الله، فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيرا، فصفح عنه، وقال: إذهب فلا أريدك، لم يزده على ذلك.

وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة -وكان له عدوّا- فأعرض عنه ولم يقل له شيئا.

وقد علمتم ما كان من عائشة أم المؤمنين في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهنّ بالعمائم وقلّدهن بالسيوف، فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأفّفت، وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي. فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهنّ، وقلن لها: إنما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع مولّ، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن. ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريّهم، ولا غنم شيئا من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، ولكنه أبى إلاّ الصفح والعفو، وتقيّد بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس.

ولمّا ملك عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا، سألهم عليّ عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفّان، فلمّا رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة، لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي، فلا حاجة لك إلى الحرب، فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك. فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا، وإن نسبتها إلى الدّين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام!.

*****

وأما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوّه أنه سيّد المجاهدين، وهل الجهاد لأحد من الناس إلاّ له! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون من المشركين، قتل عليّ نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر. وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي، وتاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، وغيرهما علمت صحة ذلك، دع من قتله في غيرها كأحد، والخندق، وغيرها، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه، لأنه من المعلومات الضرورية، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما.

*****

وأما الفصاحة، فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت. وقال ابن نباته: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده إلاّ سعة وكثرة، حفظت مائة من مواعظ عليّ بن أبي طالب.

ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعي الناس، قال له: ويحك كيف يكون أعيا الناس! فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره. ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة. وحسبك أنه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دوّن له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه.

*****

وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيّا والتبسّم، فهو المضروب به المثل فيه، حتى عابه بذلك أعداؤه، قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة. وقال عليّ عليه السلام في ذلك: عجبا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة، وأنيّ امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس. وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر ابن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك! إلا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمّجها.

قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان هشّا بشّا، ذا فكاهة. فقال قيس: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسرّ حسوا في ارتغاء، وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطّوى، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام.

وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبّيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.

*****

وأما الزهد في الدنيا فهو سيّد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرّحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ. وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا، قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت عليه يوم عيد، فقدّم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا، فقدّم فأكل، فقلت يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟. قال: خفت هذين الولدين ( يعني الحسن والحسين عليهما السلام ) أن يلُتّاه بسمن أو زيت.

وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وليف أخرى، ونعلاه من ليف. وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمّه طويلا قطعه بشفرة، ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى سدى لا لحمة له. وكان يأتدم إذا ائتدم بخلّ أو بملح، فإن ترقّى عن ذلك فببعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل. ولا يأكل اللحم إلاّ قليلا، ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان. وكان مع ذلك أشدّ الناس قوة وأعظمهم أيدا، لا ينقض الجوع قوّته، ولا يخوّن الإقلال منّته. وهو الذي طلّق الدنيا، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلاّ من الشام، فكان يفرّقها ويمزّقها، ثم يقول:

هذا جناي وخياره فيه       إذ كل جان يده إلى فيه

*****

وأما العبادة، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد، وقيام النافلة، وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير، فيصلّى عليه ورده، والسّهام تقع بين يديه وتمرّ على صماخيه يمينا وشمالا، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته! وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده!

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلى أيّ لسان جرت.

وقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام -وكان الغاية في العبادة-: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

*****

وأما قراءته القرآن واشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب، اتّفق الكلّ على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أوّل من جمعه، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة، بل يقولون: تشاغل بجمع القرآن، فهذا يدلّ على أنه أوّل من جمع القرآن، لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله. وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القرّاء كلهم يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود، وغيرهما، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السّلميّ القارئ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه، وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا، مثل ما سبق.

*****

وأما الرأي والتدبير، فكان من أسدّ الناس رأيا، وأصحّهم تدبيرا، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لمّا عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الرّوم والفرس بما أشار. وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث. وإنما قال أعداؤه: لا رأي له، لأنه كان متقيّدا بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه. وقد قال عليه السلام: لولا الدين والتّقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل ما يستصلحه ويستوقفه، أكان مطابقا للشرع أم لم يكن، ولا ريب من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب.

*****

وأما السياسة، فإنه كان شديد السياسة، خشنا في ذات الله، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاّه إياه، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به. وأحرق قوما بالنار، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجليّ، وقطع جماعة وصلب آخرين.

ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفّين والنهروان، وفي أقل القليل منها مقنع، فإن كلّ سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر ممّا فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه.

فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتّبع فعله، والرئيس المقتفى أثره.

*****

وما أقول في رجل تحبّه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملّة، وتصوّر ملوك الإفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها، حاملا سيفه، مشمّرا لحربه، وتصوّر ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها! إذ كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان على سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتبركون بها ويتفاءلون بها النصر والظفر.

وما أقول في رجل أحبّ كل واحد أن يتكثّر به، وودّ كل أحد أن يتحمل ويتحسّن بالانتساب إليه، حتى الفتوّة التي أحسن ما قيل في حدهها: أن لا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنّفوا في ذلك كتبا، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه، وقصروه عليه، وسمّوه سيّد الفتيان، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المرويّ، أنه سمع من السماء يوم أحد: لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي.

وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيّد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكة، قالوا: قلّ أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسمّيه الشيخ.

وفي حديث عفيف الكندي، لمّا رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي في مبدأ الدعوة، ومعه غلام وامرأة، قال: فقلت للعباس: أيّ شي‏ء هذا؟ قال: هذا ابن أخي محمد يزعم أنه رسول من الله إلى الناس، ولم يتبعه على قوله إلاّ هذا الغلام -وهو ابن أخي أيضا- وهذه الإمرأة -وهي زوجته- قال: فقلت: ما الذي تقولونه أنتم؟. قال: ننتظر ما يفعل الشيخ -يعني أبا طالب- وأبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صغيرا، وحماه وحاطه كبيرا، ومنعه من مشركي قريش، ولقى لأجله عنتا عظيما، وقاسى بلاء شديدا، وصبر على نصره والقيام بأمره. وجاء في الخبر: أنه لمّا توفّي أبو طالب أوحي إليه عليه السلام وقيل له: أخرج من مكة، فقد مات ناصرك.

وله مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمدا سيّدُ الأولين والآخرين، وأن أخاه جعفر ذو الجناحين، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أشبهت خلقي وخلقي، فمرّ يحجل فرحا. وزوجته سيّدة نساء العالمين، وابنيه سيّدا شباب أهل الجنة، فآباؤه آباء رسول الله، وأمهاته أمهات رسول الله، وهو مسوط بلحمه ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم، إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبي طالب، وأمهما واحدة، فكان منهما سيد الناس، هذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر وهذا الهادي!.

وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده وكلّ من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلاّ السابق إلى كلّ خير محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتّباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا به، ولم يخالف في ذلك إلاّ الأقلّون. وقد قال هو عليه السلام: أنا الصدّيق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس، وصلّيت قبل صلاتهم. ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا. وإليه ذهب الواقديّ وابن جرير الطبريّ، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب « الاستيعاب ».

ولأنّا إنما نذكر في مقدمة الكتاب جملة من فضائله عنّت بالعرض لا بالقصد، وجب أن نختصر ونقتصر، فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه.

[*] هذا الفصل منقول عن شرح ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي من دون تدخل.