خطبة الشريف الرضي رضوان الله عليه
 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، ومعاذا من بلائه، ووسيلا إلى جنانه، وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الأئمة، وسراج الأمّة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد الأقدم، ومغرس الفخار المعرق، وفرع العلاء المثمر المورق. وعلى أهل بيته مصابيح الظُّلَم، وعِصم الأمم، ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة، صلى الله عليه وعليهم أجمعين، صلاة تكون إزاء لفضلهم، ومكافأة لعملهم، وكفاء أطيب فرعهم وأصلهم، ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم طالع. فإني كنت في عنفوان السن، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام : يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب. وجعلته أمام الكلام، وفرغت من الخصائص التي تخصّ أمير المؤمنين عليا عليه السلام، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان.

وكنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبوابا، وفصّلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة، والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره معجبين ببدائعه، ومتعجّبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعّبات غصونه: من خطب، وكتب، ومواعظ، وأدب، علما أن ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينيّة والدنياويّة، ما لا يوجد مجتمعا في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وقد تقدّم وتأخّروا، لأن كلامه الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبويّ، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذّكر، ومذخور الأجر، واعتمدت به أن أبين عن عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدّثرة، والفضائل الجمّة. وإنه عليه السلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السّلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر، والشاذّ الشارد، فأما كلامه فهو البحر الذي لا يساجل، والجمّ الذي لا يحافل.

وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم       إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة:

أوّلها: الخطب والأوامر.

وثانيها: الكتب والرسائل.

وثالثها: الحكم والمواعظ.

فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا، ومفصّلا فيه أوراقا، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذّ عني عاجلا، ويقع إليّ آجلا. وإذا جاء شي‏ء من كلامه عليه السلام الخارج في أثناء حوار، أو جواب سؤال، أو غرض آخر من الأغراض -في غير الأنحاء التي ذكرتها وقرّرت القاعدة عليها- نسبته إلى أليق الأبواب به، وأشدّها ملاحمة لغرضه. وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متّسقة ومحاسن كلم غير منتظمة، لأني أورد النّكت واللّمع، ولا أقصد التتالي والنّسق.

ومن عجائبه -عليه السلام- التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمّل، وفكّر فيه المتفكّر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشكّ في أنه كلام من لا حظّ له في غير الزهادة، ولا شغل له غير العبادة، وقد قبع فى كسر بيت. وانقطع إلى سفح جبل، ولا يسمع إلاّ حسّه، ولا يرى إلاّ نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه، فيقطّ الرقاب، ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف دما، ويقطر مهجا، هو مع تلك الحال زاهد الزهّاد، وبدل الأبدال. وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها الأضداد، وألّف بين الأشتات، وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها، وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع للعبرة بها، والفكرة فيها.

وربما جاء في أثناء هذا الإختيار اللفظ المردّد، والمعنى المكرّر، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير موضعه الأول : إما بزيادة مختارة، أو لفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد، استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام. وربما بعد العهد أيضا بما اختير أوّلا فأعيد سهوا أو نسيانا، لا قصدا واعتمادا.

ولا أدعي -مع ذلك- أني أحيط بأقطار جميع كلامه حتى لا يشذّ عني منه شاذّ، ولا يندّ نادّ. بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يديّ، وما عليّ إلاّ بذل الجهد، وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه وتعالى نهج السبيل، وإرشاد الدليل، إن شاء الله.

ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بـ « نهج البلاغة »، إذ يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرّب عليه طلابها، فيه حاجة العالم والمتعلّم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل، وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه المخلوقين، ما هو بلال كلّ غلّة، وشفاء كلّ علّة، وجلاء كلّ شبهة.

ومن الله أستمدّ التوفيق والعصمة، وأتنجّز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلّة الكلم قبل زلّة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل.