بِسْمِ
اللهِ
الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ
للهِ
الَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ، وَلاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ
(نُعْمَاهُ)
الْعَادُّونَ، وَلاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لاَ
يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي
لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَلاَ وَقْتٌ
مَعْدُودٌ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ.
2- فطر الخلائق ونشر
الرياح |
فَطَرَ الْخَلاَئِقَ
بِقُدْرَتِهِ، وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ، وَوَتَّدَ بِٱلصُّخُورِ
مَيَدَانَ أَرْضِهِ.
3- أول الدين معرفة
الله سبحانه |
إِنَّ أَوَّلَ الدِّينِ
مَعْرِفَتُهُ
(مَعْرِفَةُ
اللهِ)،
وَكَمَالَ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَكَمَالَ التَّصْدِيقِ بِهِ
تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالَ تَوْحِيدِهِ الإِخْلاَصُ لَهُ، وَكَمَالَ
الإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ
أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ
الصِّفَةِ، وَشَهَادَتِهِمَا جَمِيعاً بِٱلتَّثْنِيَةِ الْمُمْتَنِعُ
مِنْهُ الأَزَلُ
(وَشَهَادَتِهِمَا جَمِيعاً بِٱلتَّنْبِيهِ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمَا
بِالْحَدَثِ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الأَزَلِ).
4- نفي الصفات عن
الله جل وعلا |
فَمَنْ وَصَفَ
اللهَ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ-
فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ
جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ
أَشَارَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ
فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ:
« فِيمَ؟ » فَقَدْ ضَمَّنَهُ،
وَمَنْ قَالَ:
« عَلاَمَ؟ » فَقَدْ حَمَلَهُ، وَمَنْ قَالَ:
« أَيْنَ؟ » فَقَدْ أَخْلَىٰٰ مِنْهُ، وَمَنْ
قَالَ:
« مَنْ هُوَ؟ » فَقَدْ نَعَتَهُ، وَمَنْ قَالَ:
« إِلاَمَ؟ » فَقَدْ غَيَّاهُ، كَائِنٌ لاَ عَنْ
حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شيْءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ
(بِمُقَارَبَةٍ)،
وَغَيْرُ كُلِّ شيْءٍ
(يُبَايِنُ عَنْ كُلِّ
شيْءٍ)
لاَ بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَىٰ الْحَرَكَاتِ وَٱلآَلَةِ،
بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ
سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، وَلاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ، فَكَذٰلِكَ
رَبُّنَا
-تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ-، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ
الْوَاصِفُونَ.
5- إنشاء الخلق وتكوين
العالم |
أَنْشَأَ الْخَلْقَ
إِنْشَاءً، وَٱبْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً، بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا
(أَحَالَهَا)،
وَلاَ تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا، وَلاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا، وَلاَ
هَمَامَةِ
(هِمَّةَ/هَمَاهِمَةَ)
نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ الأَشْيَاءَ لأَوْقَاتِهَا، وَلأَمَ
بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا، وَأَلْزَمَهَا
أَشْبَاحَهَا
(أَسْنَاخَهَا/أَحْنَاءَهَا/أَخْتَانَهَا)،
عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَٱنْتِهَائِهَا،
عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَأَحْنَائِهَا.
6- خلق الريح والماء
والسمٰوات |
ثُمَّ أَنْشَأَ
-سُبْحَانَهُ-
فَتْقَ الأَجْوَاءِ، وَشَقَّ
(وَنَتْقَ)
الأَرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ الْهَوَاءِ، فَأَجْرَىٰ فِيهَا مَاءً
مُتَلاِطِماً تَيَّارُهُ، مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ، حَمَلَهُ عَلَىٰ
مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَٱلزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَهَا
بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَىٰ شَدِّهِ، وَقَرَنَهَا إِلَىٰ حَدِّهِ،
الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ، وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ.
ثُمَّ أَنْشَأَ
-سُبْحَانَهُ-
رِيحاً اعْتَقَمَ
(أَعْقَمَ)
مَهَبَّهَا، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا، وَأَعْصَفَ مَجْرَاهَا، وَأَبْعَدَ
مَنْشَاهَا، فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ
مَوْجِ الْبِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ، وَعَصَفَتْ بِهِ
عَصْفَهَا بِٱلْفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَىٰ
(إِلَىٰ)
آخِرِهِ، وَسَاجِيَهُ عَلَىٰ مَائِرِهِ، حَتَّىٰ عَبَّ عُبَابُهُ،
وَرَمَىٰ بِٱلزَّبَدِ رُكَامُهُ، فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ،
وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ
(مُنْهَفِقٍ)،
فَسَوَّىٰ مِنْهُ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً
مَكْفُوفاً، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَسَمْكاً مَرْفُوعاً،
بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا
(يُدَعِّمُهَا)،
وَلاَ دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا
(يَنْظِمُهَا/يَطُمُّهَا)،
ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزينَةِ الْكَوَاكِبِ، وَضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ،
وَأَجْرَىٰ فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً، وَقَمَراً مُنِيراً، فِي فَلَكٍ
دَائِرٍ، وَسَقْفٍ سَائِرٍ، وَرَقيمٍ مَائِرٍ.
ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ
السَّمٰوَاتِ الْعُلَىٰ، فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ،
مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ، وَرُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ،
وَصَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ، وَمُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ، لاَ
يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ، وَلاَ سَهْوُ الْعُقُولِ، وَلاَ فَتْرَةُ
الأَبْدَانِ، وَلاَ غَفْلَةُ النِّسْيَانِ، فَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَىٰ
وَحْيِهِ، وَأَلْسِنَةٌ إِلَىٰ رُسُلِهِ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ
وَأَمْرِهِ، وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ، وَالسَّدَنَةُ لأَبْوَابِ
جِنَانِهِ، وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي ٱلأَرَضِينَ السُّفْلَىٰ
أَقْدَامُهُمْ، وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ،
وَالْخَارِجَةُ مِنَ الأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ، وَالْمُنَاسِبَةُ
لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ،
مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ، وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ، لاَ
يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِٱلتَّصْوِيرِ، وَلاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ
صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ، وَلاَ يَحُدُّونَهُ بِٱلأَمَاكِنِ، وَلاَ
يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِٱلنَّظَائِرِ، وَلاَ يَسِيرُونَ إِلَيْهِ
بِالْمَوَاطِنِ.
8- مراحل خلق الإنسان
وذكر مزاياه |
ثُمَّ جَمَعَ
-سُبْحَانَهُ-
مِنْ حَزْنِ ٱلأَرْضِ وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً
سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّىٰ خَلَصَتْ
(خَضِلَتْ)،
وَلاَطَهَا
(نَاطَهَا)
بِالْبَلَّةِ حَتَّىٰ لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ
وَوُصُولٍ، وَأَعْضَاءٍ وَفُصُولٍ، أَجْمَدَهَا حَتَّىٰ اسْتَمْسَكَتْ،
وَأَصْلَدَهَا حَتَّىٰ صَلْصَلَتْ، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ، وَأَجَلٍ
(أَمَدٍ)
مَعْلُومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ
(فَتَمَثَّلَتْ)
إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَفِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا،
وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَأَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا، وَمَعْرِفَةٍ
يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الأَذْوَاقِ
وَالْمَشَامِّ، وَٱلأَلْوَانِ وَٱلأَجْنَاسِ، مَعْجُوناً بِطِينَةِ
الأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَٱلأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ، وَٱلأَضْدَادِ
الْمُتَعَادِيَةِ، وَٱلأَخْلاَطِ الْمُتَبَايِنَةِ، مِنَ الْحَرِّ
وَالْبَرْدِ، وَالْبَلَّةِ وَالْجُمُودِ، وَالْمَسَاءَةِ وَٱلسُّرُورِ.
9- سجود الملائكة لآدم
وإسكانه الجنة |
وَٱسْتَأْدَىٰ
اللهُ
-سُبْحَانَهُ- الْمَلاَئِكَةَ
وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ، وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ، فِي ٱلإِذْعَانِ
بِٱلسُّجُودِ لَهُ، وَالْخُشُوعِ
(وَالْخُنُوعِ)
لِتَكْرِمَتِهِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ
(سُبْحَانَهُ):
﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾
"البقرة -34"،
ٱعْتَرَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ، وَتَعَزَّزَ
بِخِلْقَةِ النَّارِ، وَٱسْتَهْوَنَ
(اسْتَوْهَنَ)
خَلْقَ ٱلصَّلْصَالِ، فَأَعْطَاهُ
اللهُ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ-
النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ، وَٱسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ،
وَإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ، فَقَالَ:
﴿إِنَّكَ مِنَ
الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾
"الحجر -37/38".
ثُمَّ أَسْكَنَ
اللهُ
-سُبْحَانَهُ- آدَمَ دَاراً
أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ
(عَيْشَهُ)،
وَآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ، وَحَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَعَدَاوَتَهُ، فَٱغْتَرَّهُ
عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ
الأَبْرَارِ، فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ، وَالْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَٱسْتَبْدَلَ
بِالْجَذَلِ وَجَلاً، وَبِٱلإِغْتِرَارِ نَدَماً، ثُمَّ بَسَطَ
اللهُ
-سُبْحَانَهُ- لَهُ فِي
تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَىٰ
جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ
(وَأَهْبَطَهُ)
إِلَىٰ دَارِ الْبَلِيَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ.
10- عله توالي الرسل
والأنبياء إلى الناس |
وَٱصْطَفَىٰ
-سُبْحَانَهُ-
مِنْ وُلْدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَىٰ الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَىٰ
تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ
(أَيْمَانَهُمْ)،
لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ
اللهِ
إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، وَٱتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَهُ، وَٱجْتَالَتْهُمُ
الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَٱقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ،
فَبَعَثَ
اللهُ
فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ بِمَا خَصَّهُمْ
بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَىٰ خَلْقِهِ،
لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ
نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِٱلتَّبْلِيغِ، لِئَلاَّ تَجِبَ
الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَيُثيرُوا لَهُمْ
دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ
(الآيَاتِ الْمُقدَّرَةَ)،
مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ،
وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ،
وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ.
وَلَمْ يُخْلِ
اللهُ
-سُبْحَانَهُ- خَلْقَهُ مِنْ
نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ، أَوْ
مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ
(لاَ تَقْصُرُ)
بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلاَ كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ
سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ
قَبْلَهُ، عَلَىٰ ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ
(الْقُرُونُ
الْمَاضِيَةُ)،
وَمَضَتِ ٱلدُّهُورُ
(ٱلدُّهُورُ
الْخَالِيَةُ)،
وَسَلَفَتِ الآبَاءُ، وَخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ
الصِّدْقِ إِلَىٰ سِبِيلِ الْحَقِّ.
11- بيان أن
الله تعالى ختم النبوة
بمحمد صَلَّىٰ
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ |
إِلَىٰ أَنْ بَعَثَ
اللهُ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ-
مُحَمَّداً
(مُحَمَّداً رَسُولَ
اللهِ)
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ لإِنْجَازِ عِدَتِه، وَتَمَامِ نُبُوَّتِهِ، مَأْخُوذاً
عَلَىٰ النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ، كَرِيماً
مِيلاَدُهُ. وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ،
وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَطَرَائِقُ
(وَطَوَائِفُ)
مُتَشَتِّتَةٌ: بَيْنَ مُشَبِّهٍ
للهِ
بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِدٍ فِي ٱسْمِهِ، أَوْ مُشِيرٍ إِلَىٰ غَيْرِهِ،
فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ
الْجَهَالَةِ.
أَلاَ إِنَّ
اللهَ
-تَعَالَىٰ- قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ
(عِبَادَهُ)
كَشْفَةً، لاَ أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ،
وَمَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً، وَالْعِقَابُ بَوَاءً.
ثُمَّ اخْتَارَ
-سُبْحَانَهُ-
لِمُحَمَّدٍ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ لِقَاءَهُ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ، وَأَكْرَمَهُ
(فَأَكْرَمَهُ)
عَنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَارَنَةِ الْبَلْوَىٰ،
فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً، صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ.
12- دور القرآن وأصناف
الأحكام الشرعية |
وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا
خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا
-إِذْ لَمْ
يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً، بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَلاَ عَلَمٍ قَائِمٍ-
كِتَابَ رَبِّكُمْ، مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرَامَهُ، وَفَرَائِضَهُ
وَفَضَائِلَهُ
(نَوَافِلَهُ)،
وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ، وَخَاصَّهُ
وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ،
وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ، مُفَسِّراً جُمَلَهُ
(مُجْمَلَهُ)،
وَمُبَيِّنَاً غَوَامِضَهُ، بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ
(مَأْخُوذِ مِيثَاقٍ فِي عِلْمِهِ)، وَمُوَسَّعٍ عَلَىٰ
الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ، وَبَيْنَ مُثْبَتٍ فِي ٱلْكَتَابِ فَرْضُهُ،
َمَعْلُومٍ فِي ٱلسُّنَّةِ نَسْخُهُ، وَوَاجِبٍ فِي ٱلشَّريعَةِ أَخْذُهُ،
مُرَخَّصٌ فِي ٱلْكِتَابِ تَرْكُهُ، وَبَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ،
وَزَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ، وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ
كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ، أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ
غُفْرَانَهُ، وَبَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ، وَمُوَسَّعٍ فِي
أَقْصَاهُ.
وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ
(عَلَيْهِمْ)
حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلأَنَامِ،
يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأَنْعَامِ، وَيَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ
الْحَمَامِ، جَعَلَهُ
-سُبْحَانَهُ-
عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَٱخْتَارَ
مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً، أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا
كَلِمَتَهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا
بِمَلاَئِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ، يُحْرِزُونَ ٱلأَرْبَاحَ فِي
مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ.
جَعَلَهُ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ- لِلإِسْلاَمِ عَلَماً،
وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَجَّهُ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُ
(فَرَضَ حَقَّهُ، وَأَوْجَبَ حَجَّهُ)، وَكَتَبَ
عَلَيْكُمْ وِفَادَتَه، فَقَالَ
-سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَىٰ-:
﴿وَللهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن
كَفَرَ فَإِنَّ
الله غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ﴾
"آل عمران -97".
وَقَالَ رَسُولُ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيُهِ وَآلِهِ:
"مَنْ مَلَكَ رَاحِلَةً وَزَاداً
يُبْلِغُهُ إِلَىٰ بَيْتِ
اللهِ
الْحَرَامِ وَلَمْ يَحِجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيّاً أَوْ
نَصْرَانِيّاً".