(2)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

المعروفة بخطبة الأشباح وقد سأله سائل أن يصف الله حتى كأنه يراه عيانا، فغضب عليه السلام لكلامه فصعد المنبر فقال

1- ذكر عظمة الله تعالى وسعة جوده

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، اَلْحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ (لاَ يَعُرُّهُ) الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ، وَلاَ يُكْدِيهِ الإِعْطَاءُ وَالْجُودُ، إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقَصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ، وَهُوَ الْمَنَّانُ (الْمَلِيءُ) بِفَوَائِدِ النِّعَمِ، وَعَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَالْقِسَمِ، عِيَالُهُ الْخَلاَئِقُ، بِجُودِهِ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبينَ إِلَيْهِ، وَٱلطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا (مِمَّا) لَمْ يُسْأَلْ، الأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ قَبْلُ فَيَكُونَ شيْءٌ قَبْلَهُ، وَٱلآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدُ فَيَكُونَ شيْءٌ بَعْدَهُ، وَٱلرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَتَخْتَلِفَ مِنْهُ (عَلَيْهِ) الْحَالُ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الإِنْتِقَالُ.

وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ، وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ، مِنْ فِلَزِ (فِلَقِ) اللُّجَيْنِ، وَسَبَائِكِ الْعِقْيَانِ، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ، وَحَصِيدِ (نَضَائِدِ) الْمَرْجَانِ، لِبَعْضِ عَبِيدِهِ، مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ، وَلاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الإِنْعَامِ (الإِفْضَالِ) مَا لاَ تَخْطُرُ لِكَثْرَتِهِ عَلَىٰ بَالٍ، وَلاَ تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الأَنَامِ، لأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لاَ يَغيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ، وَلاَ يُبَخِّلُهُ (وَلاَ يُبْخِلُهُ) إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ، وَ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ "يس -82".

فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ هُوَ هٰكَذَا وَلاَ هٰكَذَا غَيْرُهُ؟.

أَيُّهَا السَّائِلُ، إِعْقَلْ عَنِّي مَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، وَلاَ تَسْأَلَنَّ أَحَداً عَنْهُ بَعْدِي، فَإِنِّي أَكْفِيكَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَشِدَّةَ التَّعَمُّقِ فِي الْمَذَاهِبِ، وَكَيْفَ يُوصَفُ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي عَجَزَتِ الْمَلاَئِكَةُ، -مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْ كُرْسِيِّ كَرَامَتِهِ، وَطُولِ وَلَهِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَعْظِيمِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ، وَقُرْبِهِمْ مِنْ غَيْبِ مَلَكُوتِهِ- أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ مَا عَلَّمَهُمْ، وَهُوَ مِنْ مَلَكُوتِ الْقُدْسِ بِحَيْثُ هُمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ عَلَىٰ مَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَـ ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ "البقرة -32".

2- بيان عجز الإنسان عن وصف ملائكة الله

بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً، -أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ- فَصِفْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَجُنُودَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فِي حُجُرَاتِ الْقُدْسِ مُرْجَحِنِّينَ، مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ.

]وَمَلَكَ الْمَوْتِ[ هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلُ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّىٰ أَحَداً؟، بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّىٰ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؟. أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا ؟. أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا ؟. أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا ؟.

كَيْفَ يَصِفُ إِلَـٰهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ ؟. فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِٱلصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيَئَاتِ وَٱلأَدَوَاتِ، وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ.

فَلاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلاَمٍ، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ.

فَٱنْظُرْ -أَيُّهَا السَّائِلُ-، فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ نِعْمَةٌ وَحِكْمَةٌ أُوتِيتَهُمَا، ]فَـ[خُذْ مَا أُوتِيتَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَٱتَّبِعْهُ لِيُوصِلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَٱئْتَمَّ بِه، وَٱسْتَضِىءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَتقْدُمُكَ فِيهِ الرَّسُلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَىٰ أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَىٰ اللهِ -سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَىٰ حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ.

3- معنى الراسخين في العلم

وَٱعْلَمْ -أَيُّهَا السَّائِلُ- أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ، الإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ، فَقَالُوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ "آل عمران -7"، فَمَدَحَ اللهُ -تَعَالَىٰ- اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وَسَمَّىٰ تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثُ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً، فَٱقْتَصِرْ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَلاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَىٰ قَدْرِ عَقْلِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.

هُوَ الْقَادِرُ (اللَّطِيفُ) الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ (خَطَرِ) الْوَسَاوِسِ، أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَلَّهَتِ (تَوَاهَقَتْ) الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَالَ (لِتَنَاوُلِ) عِلْمَ ذَاتِهِ، رَدَعَهَا (رُدِعَتْ) وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ، خَاسِئَةً، مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ الإِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ (خَاطِرٌ) مِنْ تَقْديرِ جَلاَلِ عِزَّتَهِ، لِبُعْدِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي قُوَىٰ الْمَحْدُودِينَ، ]وَ [لأَنَّهُ خِلاَفُ خَلْقِهِ فَلاَ شَبَهَ لَهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِنَّمَا يُشَبَّهُ الشَّيْءُ بِعَدِيلِهِ، فَأَمَّا مَا لاَ عَدِيلَ لَهُ فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِغَيْرِ مِثَالِهِ، وَهُوَ الْبَدِي‏ءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَٱلآخِرُ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ بَعْدَهُ، لاَ تَنَالُهُ الأَبْصَارُ فِي مَجْدِ جَبَرُوتِهِ، إِذْ حَجَبَهَا بِحُجُبٍ لاَ تُنْفَذُ فِي تُخْنِ كَثَافَتِهِ، وَلاَ تَخْرُقُ إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ مَتَانَةُ خَصَائِصِ سِتْرَاتِهِ، الَّذِي تَصَاغَرَتْ عِزَّةُ الْمُتَجَبِّرِينَ دُونَ جَلاَلِ عَظَمَتِهِ، وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ مِنْ مَخَافَتِهِ.

4- بيان الصفات الخاصة بالله تعالى

وَٱعْلَمْ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ- لَمْ يَحْدُثْ فَيُمْكِنَ فِيهِ التَّغَيُّرُ وَٱلإِنْتِقَالُ، وَلَمْ تَتَصَرَّفْ فِي ذَاتِهِ كُرُورُ الأَحْوَالِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ عَقْبُ (حُقَبُ) الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَىٰ غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ، وَلاَ مِقْدَارٍ احْتَدَىٰ عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ، وَٱعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَىٰ أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَىٰ مَعْرِفَتِهِ، لاَ تُحِيطُ بِهِ الصِّفَاتُ فَيَكُونُ بِإِدْرَاكِهَا إِيَّاهُ بِالْحُدُودِ مُتَنَاهِياً، وَمَا زَالَ هُوَ اللهُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ عَنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ مُتَعَالِياً، وَانْحَسَرَتِ الأَبْصَارُ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ فَيَكُونَ بِالْعَيَانِ مَوْصُوفاً، وَفَاتَ لِعُلُوِّهِ عَلَىٰ أَعْلَىٰ الأَشْيَاءِ مَوَاقِعَ رَجْمِ الْمُتَوَهِّمِينَ، وَٱرْتَفَعَ عَنْ أَنْ تَحْوِيَ كُنْهَ عَظَمَتِهِ فَهَاهَةُ (لَمَّةُ) رَوِيَّاتِ الْمُتَفَكِّرِينَ، فَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَيَكُونَ مَا يَخْلُقُ مُشَبَّهاً بِهِ، وَمَا زَالَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ عَنِ الأَشْبَاهِ وَٱلأَنْدَادِ مُنَزَّهاً، وَظَهَرَتْ فِي الْبَدَائِعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ، وَدَلِيلاً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَلْقَاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِٱلتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَىٰ الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ.

5- النهي عن التشبه بالله ومساواته بالأشياء

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ (أَيُّهَا السَّائِلُ، إِعْلَمْ أَنَّ مَنْ شَبَّهَ رَبَّنَا الْجَلِيلَ) بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلاَحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ (غَيْبُ) ضَمِيرِهِ عَلَىٰ مَعْرِفَتِكَ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ (قَلْبُهُ) الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَ نِدَّ لَكَ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّأَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ، إِذْ يَقُولُونَ: ﴿تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ "الشعراء -97/98".

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ، وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِتَقْديرٍ مُنْتَجٍ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَقَدَّرُوكَ عَلَىٰ الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَىٰ بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ مُقَدَّراً فِي رَوِيَّاتِ الأَوْهَامِ، وَقَدْ ضَلَّتْ فِي إِدْرَاكِ كُنْهِهِ هَوَاجِسُ الأَحْلاَمِ، لأَنَّهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تَحُدَّهُ أَلْبَابُ الْبَشَرِ بِتَفْكِيرٍ، أَوْ تُحِيطَ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ عَلَىٰ قُرْبِهِمْ مِنْ مَلَكُوتِ عِزَّتِهِ بِتَقْدِيرٍ، وَهُوَ أَعْلَىٰ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كُفْوٌ فَيُشَبَّهَ بِنَظِيرٍ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ -رَبَّنَا- بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، وَالْعَادِلُ (وَالْعَادِلُ بِكَ) كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ (بِهِ) شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ، فَإِنَّكَ (لأَنَّكَ) أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ (رِوَايَاتِ) خَوَاطِرِهَا (حَوَاصِلِ رَوِيَّاتِ هِمِمَ النُّفُوسِ) مَحْدُوداً (مُحَدَّداً) مُصَرَّفاً، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَنْ جَهْلِ الْمَخْلُوقِينَ، فَسُبْحَانَ اللهِ عَنْ إِفْكِ الْجَاهِلِينَ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِأَحَدِكُمْ؟!. وَأَيْنَ يُدْرِكُ مَا لاَ يُدْرَكُ ؟. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

6- خلق الأشياء وسنن السنن الطبيعية

قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ (وَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ بِلُطْفِ تَدْبِيرِهِ مَوْضِعَهُ)، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ، وَلَمْ يَقْصُرْ دُونَ الإِنْتِهَاءِ إِلَىٰ غَايَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَىٰٰ إِرَادَتِهِ، وَكَيْفَ وَإِنَّمَا صَدَرَتِ الأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ!

هُوَ الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الأَشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ (إِحْتَاجَ) إِلَيْهَا، وَلاَ قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا، وَلاَ تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَلاَ شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَىٰٰ ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الأُمُورِ، وَلاَ مُعَانَاةٍ لِلُغُوبٍ مَسَّهُ، وَلاَ مُكَاءَدَةٍ (مُكَابَدَةٍ) لِمُخَالِفٍ عَلَىٰٰ أَمْرِهِ، فَتَمَّ خَلْقُهُ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ، وَأَجَابَ إِلَىٰ دَعْوَتِهِ، وَوَافَىٰ الْوَقْتَ الَّذِي أَخْرَجَهُ إِلَيْهِ إِجَابَةً، لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ، وَلاَ أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ، فَأَقَامَ مِنَ الأَشْيَاءِ أَوَدَهَا، وَنَهَجَ مَعَالِمَ حُدُودِهَا (نَهَجَ جَدَدهَا)، وَلاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا، وَخَالَفَ بَيْنَ أَلْوَانِهَا، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَٱلأَقْدَارِ (وَٱلأَقْطَارِ)، وَالْغَرَائِزِ وَالْهَيَئَاتِ، بَدَايَا (فَبَرَأَ) خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا، وَفَطَرَهَا عَلَىٰٰ مَا أَرَادَ وَٱبْتَدَعَهَا، إِنْتَظَمَ عِلْمُهُ صُنُوفَ ذَرْئِهَا، وَأَدْرَكَ تَدْبِيرُهُ حُسْنَ تَقْدِيرِهَا، وَنَظَّمَ بِلاَ تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا، وَلاَحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا، وَوَشَّجَ (وَشَجَ) بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهَا، وَذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ وَالصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا، وَنَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَىٰ أَشْرَاجِهَا، وَفَتَقَ بَعْدَ الإِرْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا، وَأَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَىٰٰ نِقَابِهَا، وَأَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تَمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ (رَائِدَةً)، وَأَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لأَمْرِهِ.

7- خلق الشمس القمر والشهب والفلك

وَجَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا، وَقَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا، فَأَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا، وَقَدَّرَ مَسِيرَهُمَا (سَيْرَهُمَا) فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا، لِيُمَيَّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ بِهِمَا، وَلِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ بِمَقَادِيرِهِمَا، ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا (فَلَكاً)، وَنَاطَ بِهَا زينَتَهَا، مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا، وَمَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا، وَرَمىٰ مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا، وَأَجْرَاهَا عَلَىٰٰ أَذْلاَلِ تَسْخِيرِهَا، مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا، وَمَسِيرِ سَائِرِهَا، وَهُبُوطِهَا وَصُعُودِهَا، وَنُحُوسِهَا وَسُعُودِهَا.

8- بيان خلق الملائكة وصورها وأقدارها

ثُمَّ خَلَقَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- لإِسْكَانِ سَمٰوَاتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الأَعْلَىٰ مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَديعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، مَلأَ (وَمَلأَ) بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَابِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلَ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ، وَسُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الأَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَىٰٰ حُدُودِهَا.

أَنْشَأَهُمْ عَلَىٰٰ صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ، وَأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، أُولِي أَجْنِحَةٍ ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ "فاطر -1" تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ، لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ (صَنْعَتِهِ)، وَلاَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئَاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ *لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ "الأنبياء -26/27".

9- أصناف الملائكة وخصائصهم

جَعَلَهُمْ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الأَمَانَةِ عَلَىٰٰ وَحْيِهِ، وَحَمَّلَهُمْ إِلَىٰ الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ، وَأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً إِلَىٰ تَمْجِيدِهِ (تَمَاجِيدِهِ)، وَنَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَىٰٰ أَعْلاَمِ تَوْحِيدِهِ، لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُوصِرَاتُ الآثَامِ، وَلَمْ تَرْتَحِلْهُمْ (تَحِلَّهُمْ) عُقَبُ اللَّيَالِي وَٱلأَيَّامِ، وَلَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ، وَلَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَىٰٰ مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ، وَلاَ قَدَحَتْ قَادِحَةُ الإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلاَ سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لاَقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ، وَ (وَمَا) سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَهَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ، وَلَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا (بِرَيْبِهَا) عَلَىٰٰ فِكْرِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّخِ (الدُّلَّحِ/الدُّلَّجِ)، وَفِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ، وَفِي قَتْرَةِ الظَّلاَمِ الأَيْهَمِ (الأَبْهَمِ)، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الأَرْضِ السُّفْلَىٰ، فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ، وَتَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَىٰٰ حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ.

10- حالات الملائكة الروحية

قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ، وَوَسَّلَتْ (وَصَّلَتْ) حَقَائِقُ الإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَقَطَعَهُمُ الإِيقَانُ بِهِ إِلَىٰ الْوَلَهِ إِلَيْهِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ (تَجَاوَزْ) رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَىٰ مَا عِنْدَ غَيْرِهِ.

قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَشَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ، فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ، وَلاَ أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُمُ الإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَلاَ تَرَكَتْ لَهُمْ إِسْتِكَانَةُ الإِجْلاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ، وَلَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَىٰٰ طُولِ دُؤُوبِهِمْ، وَلَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ، وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسْلاَتُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ مَلَكَتْهُمُ الأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ (الْخَبَرِ) إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ، وَلَمْ يَثْنُوا إِلَىٰ رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ، وَلاَ تَعْدُو عَلَىٰٰ عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلاَدَةُ الْغَفَلاَتِ، وَلاَ تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ.

11- عصمة الملائكة

قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ، وَيَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَىٰ الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ، لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهِمُ الإِسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ إِلاَّ إِلَىٰ مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ، لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ، وَلَمْ تَأْسِرْهُمُ الأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَىٰٰ اجْتِهَادِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى‏ٰٰ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِٱسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ، وَلاَ تَوَلاَّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ، وَلاَ تَشَعَّبَتْهُمْ (شَعَّبَتْهُمْ) مَصَارِفُ الرَّيْبِ، وَلاَ اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ، فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَلاَ عُدُولٌ، وَلاَ وَنَىً وَلاَ فُتُورٌ، وَلَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمٰوَاتِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلاَّ وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ، يَزْدَادُونَ عَلَىٰٰ طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً، وَتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً.

12- خلق الأرض

]وَ [كَبَسَ الأَرْضَ عَلَىٰٰ مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ، وَلُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ، تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَتْبَاجِهَا، وَتَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا، فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقْلِ حَمْلِهَا، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا، وَذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا، فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً، وَفِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً، وَسَكَنَتِ الأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ (بَائِهِ) وَٱعْتِلاَئِهِ، وَشُمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ، وَكَعَمَتْهُ عَلَىٰٰ كِظَّةِ جَرْيَتِهِ، فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ، وَلَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ.

13- مراحل تأهيل الأرض

فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا، وَحَمَلَ شَوَاهِقَ الْجِبَالِ الْبُذَّخِ (الشُّمَّخِ) عَلَىٰٰ أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا، وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيَدِهَا وَأَخَادِيدِهَا، وَعَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِٱلرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا، فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ (بِرُسُوبِ) الْجِبَلِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا، وَتَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا، وَرَكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الأَرَضِينَ وَجَرَاثِيمِهَا، وَفَسَحَ (وَفَسَّحَ) بَيْنَ الْجَوِّ وَبَيْنَهَا، وَأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا، وَأَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَىٰٰ تَمَامِ مَرَافِقِهَا.

14- بيان دور السحاب في إرواء اليابسة

ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ (حَزَنَ) الأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا (رَوَائِيهَا)، وَلاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ الأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَىٰ بُلُوغِهَا، حَتَّىٰ أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا، أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ، وَتَبَايُنِ قُزَعِهِ، حَتَّىٰ إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ، وَالْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ (كِسْفِهِ)، وَلَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ، وَمُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ، أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً، قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ، تَمْرِيهِ (يَمْرِي) الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ، وَدَفْعَ شَآبِيبِهِ.

فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بَوَانِيهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الأَرْضِ النَّبَاتَ، وَمِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الأَعْشَابَ، فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا، وَتَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا، وَحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ (شُمِطَتْ) بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ بَلاَغاً لِلأَنَامِ، وَرِزْقاً لِلأَنْعَامِ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا، وَأَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَىٰٰ جَوَادِّ طُرُقِهَا.

15- علة تقدير الله تعالى للأرزاق

وَقَدَّرَ الأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا، وَقَسَّمَهَا عَلَىٰٰ الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا، وَلِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَٱلصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا. ثُمَّ قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا، وَبِسَلاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا، وَبِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا.

وَخَلَقَ الآجَالَ فَأَطَالَهَا وَقَصَّرَهَا، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَهَا، وَوَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لأَشْطَانِهَا، وَقَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا.

16- وصفه عليه السلام علم الله تعالى

عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ، وَنَجْوَىٰ الْمُتَخَافِتِينَ، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ، وَعُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ، وَمَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ، وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وَغَيَابَاتُ الْغُيُوبِ، وَمَا أَصْغَتْ لاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الأَسْمَاعِ، وَمَصَائِفِ الذَّرِّ، وَمَشَاتِي الْهَوَامِّ، وَرَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ، وَهَمْسِ الأَقْدَامِ، وَمُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلاَئِجِ غُلُفِ الأَكْمَامِ، وَمُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَأَوْدِيَتِهَا، وَمُخْتَبَأِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الأَشْجَارِ وَأَلْحِيَتِهَا، وَمَغْرِزِ الأَوْرَاقِ مِنَ الأَفْنَانِ، وَمَحَطِّ الأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الأَصْلاَبِ، وَنَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَمُتَلاَحِمِهَا، وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا، وَمَا تَسْفِي الأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا، وَتَعْفُو الأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا، وَعَوْمِ نَبَاتِ الأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ، وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الأَجْنِحَةِ بِذُرىٰ شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ، وَتَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ (النُّطْقِ) فِي دَيَاجِيرِ الأَوْكَارِ، وَمَا أَوْعَبَتْهُ (أُودِعَتْهُ) الأَصْدَافُ، وَحَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ، وَمَا غَشِيَتْهُ (عَشِيَتْهُ) سُدْفَةُ لَيْلٍ، أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ، وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ، وَسُبُحَاتُ النُّورِ، وَأَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ، وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ، وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ، وَمُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ، وَمِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ، وَهَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ (ثَمَرَةِ) شَجَرَةٍ، أَوْ سَاقِطِ وَرَقةٍ، أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ، أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَمُضْغَةٍ، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَسُلاَلَةٍ، لَمْ تَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كُلْفَةٌ، وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الأُمُورِ وَتَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلاَلَةٌ وَلاَ فَتْرَةٌ، بَلْ نَفَذَهُمْ (نَفَذَ فِيهِمْ) عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُمْ عَدُّهُ (عَدَدُهُ)، وَوَسِعَهُمْ عَدْلُهُ، وَغَمَرَهُمْ فَضْلُهُ، مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ.

17- تمهيد الأرض وخلق آدم وتوالي الأنبياء

فَلَمَّا مَهَّدَ أَرْضَهُ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ، اخْتَارَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ خِيَرَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَالْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ، فَأَقْدَمَ عَلَىٰٰ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوافَاةً (مُوًافَقَةً) لِسَابِقِ عِلْمِهِ، فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ، وَلِيُقيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَىٰٰ عِبَادِهِ.

وَلَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَىٰٰ أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَمُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً، فَٱسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ (تَنَاسَلَتْهُمْ) كَرَائِمُ الأَصْلاَبِ إِلَىٰ مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ، كُلَّمَا مَضَىٰ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللهِ خَلَفٌ.

18- في ذكر الرسول (ص) وفضله

حَتَّىٰ أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- إِلَىٰ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً (أَكْرَمِ الْمَعَادِنِ مَحْتِداً، وَأَفْضَلِ الْمَنَابِتِ مَنْبِتاً)، وَأَعَزِّ الأَرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ (صَاغَ) اللهُ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَٱنْتَخَبَ (انْتَجَبَ) مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، الطَّيِّبَةِ الْعُودِ، الْمُعْتَدِلَةِ الْعَمُودُ، الْبَاسِقَةِ الْفُرُوعُ، النَّاضِرَةِ الْغُصُونُ، الْيَانِعَةِ الثِّمَارُ، الْكَرِيمَةِ الْحَشَاءُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، وَفِيهِ تَشَعَّبَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَعَزَّتْ وَٱمْتَنَعَتْ، فَسَمَتْ بِهِ وَشَمَخَتْ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وَثَمَرٌ لاَ يُنَالُ (وَثَمَرَةٌ لاَ تُنَالُ)، مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ، وَمَمَاهِدِ السَّلاَمَةِ. حَتَّىٰ أَكْرَمَهْ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِٱلرُّوحِ الأَمِينِ، وَٱلنُّورِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، وَسَخَّرَ لَهُ الْبُرَاقَ، وَصَافَحَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ، وَأَرْعَبَ بِهِ الأَبَالِسَةَ، وَهَدَمَ بِهِ الأَصْنَامَ وَٱلآلِهَةِ الْمَعْبُودَةَ دُونَهُ.

قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الأَبْرَارِ، وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأَبْصَارِ، دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغَائِنَ، وَأَطْفَأَ بِهِ النَّوَائِرَ (الثَّوَائِرَ)، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَانَاً، وَفَرَّقَ (قَرَنَ) بِهِ أَقْرَاناً، وَأَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ.

19- بيان مقام النبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وفضل آل البيت

حَتَّىٰ تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذُرُهُ وَنُذُرُهُ، كَلاَمُهُ بَيَانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ، فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَىٰ، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَىٰ، سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْءُهُ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ، وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، فَٱسْتَضَاءَتْ بِهِ الْعِبَادُ، وَٱسْتَنَارَتْ بِهِ الْبِلاَدُ، سِيرَتُهُ الْقَصْدُ (الْعَدْلُ)، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ (الْحَقُّ)، صَدَعَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ، وَبَلَّغَ مَا حَمَّلَهُ، حَتَّىٰ أَفْصَحَ بِٱلتَّوْحِيدِ دَعْوَتُهُ، وَأَظْهَرَ فِي الْخَلْقِ أَنْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَخَلُصَتْ لَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ، وَصَفَتْ لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ. وَأَظْهَرَ اللهُ بِٱلتَّوْحِيدِ حُجَّتَهُ، وَأَعْلَىٰ بِٱلإِسْلاَمِ دَرَجَتَهُ، وَٱخْتَارَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِنَبِيِّهِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّوْحِ وَٱلدَّرَجَةِ وَالْوَسِيلَةِ.

أَللَّهُمَّ فَخُصَّهُ بِٱلذِّكْرِ الْمَحْمُودِ، وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَٱحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَاكِثِينَ، وَٱجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي ظِلِّ الْعَيْشِ، وَبَرْدِ الرَّوْحِ، وَقُرَّةِ الأَعْيُنِ، وَنُضْرَةِ السُّرُورِ، وَبَهْجَةِ النَّعِيمِ، فَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَّهُ ]قَدْ[ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّىٰ الأَمَانَةَ، وَٱجْتَهَدَ لِلأُمَّةِ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِكَ، وَلَمْ يَخَفْ لَوْمَةَ لاَئِمٍ فِي دِينِكَ، وَعَبَدَكَ حَتَّىٰ أَتَاهُ الْيَقِينَ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ عَدَدَ مَا صَلَّىٰ عَلَىٰ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ.

وَفِيكُمْ مَنْ يَخْلُفُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمْ لَنْ تَضِلُّوا، وَهُمُ الدُّعَاةُ، وَبِهِمُ النَّجَاةُ، وَهُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ، وَهُمُ النُّجُومُ بِهِمْ يُسْتَضَاءُ، مِنْ شَجَرَةٍ طَابَ فَرْعُهَا، وَزَيْتُونَةٍ بُورِكَ أَصْلُهَا، مِنْ خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ إِلَىٰ خَيْرِ مُسْتَوْدَعٍ، مِنْ مُبَارَكٍ إِلَىٰ مُبَارَكٍ، صَفَتْ مِنَ الأَقْذَارِ وَٱلأَدْنَاسِ، وَمِنْ قَبيحِ مَا نَبَتَ عَلَيْهِ أَشْرَارُ النَّاسِ، حَسَرَتْ عَنْ صِفَاتِهِمُ الأَلْسُنُ، وَقَصُرَتْ عَنْ بُلُوغِهِمُ الأَعْنَاقُ، وَبِٱلنَّاسِ إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ، فَٱخْلُفُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِيهِمْ بِأَحْسَنِ الْخِلاَفَةِ، فَقَدْ أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُمْ وَالْقُرْآنُ الثَّقَلاَنُ، وَإِنَّهُمَا "لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ". فَٱلْزَمُوهُمْ تَهْتَدُوا وَتَرْشُدُوا، وَلاَ تَتَفَرَّقُوا عَنْهُمْ وَلاَ تَتْرُكُوهُمْ فَتَفَرَّقُوا وَتَمْرُقُوا.

أَللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ، وَٱلتِّعْدَادِ الْكَثِيرِ، إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ، وَإِنْ تُرْجَ فَأَكْرَمُ مَرْجُوٍّ.

أَللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ، وَلاَ أُثْنِي بِهِ عَلَىٰ أَحَدٍ سِوَاكَ، وَلاَ أُوَجِّهُهُ إِلَىٰ مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرَّيْبَةِ، وَعَدَلْتُ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الآدَمِيِّينَ، وَٱلثَّنَاءِ عَلَىٰ الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ.

أَللَّهُمَّ وَلِكُلِّ مُثْنٍ عَلَىٰ مَنْ أَثْنَىٰ عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ، أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ، وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلاً عَلَىٰ ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ.

أَللَّهُمَّ وَهٰذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِٱلتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ، وَلَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهٰذِهِ الْمَحَامِدِ وَالْمَمَادِحِ غَيْرَكَ، وَبِيَ فَاقَةٌ إِلَيْكَ لاَ يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلاَّ فَضْلُكَ، وَلاَ يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّكَ وَجُودُكَ، فَهَبْ لَنَا فِي هٰذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الأَيْدِي إِلَىٰ سِوَاكَ، إِنَّكَ عَلَىٰٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.