(4)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

في التوحيد وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة

1- بيانه عليه السلام السبيل إلى عبادة الله تعالى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بَطَنَ (فَطَنَ) خَفِيَّاتِ الأُمُورِ، وَدَلَّتْ (ذَلَّتْ) عَلَيْهِ أَعْلاَمُ الظُّهُورِ، وَٱمْتَنَعَ عَلَىٰ عَيْنِ الْبَصِيرِ (عَلَىٰ الأَبْصَارِ)، فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ (فَلاَ قَلْبُ مَنْ لَمْ يَرَهُ يُنْكِرُهُ، وَلاَ عَيْنُ مَنْ أَثْبَتَهُ تُبْصِرُهُ)، سَبَقَ (سَمَقَ) فِي الْعُلُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَعْلَىٰ مِنْهُ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ، فَلاَ اسْتِعْلاَؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ (سَوَّاهُمْ) فِي الْمَكَانِ بِهِ.

لَمْ يُطْلِعِ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْعُقُولَ عَلَىٰ تَحْدِيدِ صِفَتِهِ، وَلَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ عَلَىٰ إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي (قُلُوبِ ذَوِي) الْجُحُودِ، تَعَالَىٰ اللهُ عَمَّا يَقُولُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً.

إِنَّ أَوَّلَ عِبَادَةِ اللهِ مَعْرِفَتُهُ، وَأَصْلُ مَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدُهُ، وَنِظَامُ تَوْحِيدِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ وَمَوْصُوفٍ مَخْلُوقٌ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنَّ لَهُ خَالِقاً لَيْسَ بِصِفَةٍ وَلاَ مَوْصُوفٍ، وَشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ وَمَوْصُوفٍ بِٱلإِقْتِرَانِ، وَشَهَادَةِ الإِقْتِرَانِ بِالْحَدَثِ، وَشَهَادَةِ الْحَدَثِ بِٱلإِمْتِنَاعِ مِنَ الأَزَلِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَدَثِهِ.

فَلَيْسَ اللهَ عَرَفَ مَنْ عَرَّفَ ذَاتَهُ، وَمَا وَحَّدَهُ وَلاَ بِهِ صَدَّقَ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلاَ حَقيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ (وَلاَ أَصَابَ حَقيقَتَهُ مَنْ مَثَّلَ بِهِ)، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَىٰ مَنْ شَبَّهَهُ ]وَ[ حَدَّهُ، وَلاَ لَهُ وَحَّدَ مَنِ اكْتَنَهَهُ، وَلاَ بِهِ آمَنَ مَنْ نَهَّاهُ، وَلاَ لَهُ تَذَلَّلَ مَنْ بَعَّضَهُ، وَلاَ صَمَدَهُ (صَمَّدَهُ) مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ، كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ (كُلُّ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ مَصْنُوعٌ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ). شَائِي الأَشْيَاءَ لاَ بِهِمَّةٍ، دَرَّاكٌ لاَ بِخَدِيعَةٍ، فِي الأَشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرَ مُتَمَازِجٍ بِهَا، وَلاَ بَايِنٍ مِنْهَا.

بِصُنْعِ اللهِ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ، وَبِالْعُقُولِ تُعْتَقَدُ مَعْرِفَتُهُ، وَبِالْفِكْرَةِ تَثْبُتُ حُجَّتُهُ، وَبِآيَاتِهِ احْتَجَّ عَلَىٰ خَلْقِهِ.

2- نفيه عليه السلام صفات المخلوقين عن الخالق

خَلَقَ اللهُ تَعَالَىٰ الْخَلْقَ فَعَلَّقَ حِجَاباً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمُبَايَنَتُهُ إِيَّاهُمْ مُفَارَقَتُهُ إِنِّيَّتَهُمْ، وَإِيدَاؤُهُ إِيَّاهُمْ شَاهِدُ عَلَىٰ أَنْ لاَ أَدَاةَ فِيهِ، لِشَهَادَةِ الأَدَوَاتِ بِفَاقَةِ الْمُؤَدَّيْنَ، وَٱبْتِدَاؤُهُ إِيَّاهُمْ دَلِيلٌ عَلَىٰ أَنْ لاَ ابْتِدَاءَ لَهُ، لِعَجْزِ كُلِّ مُبْتَدَءٍ مِنْهُمْ عَنْ إِبْدَاءِ غَيْرِهِ.

أَسْمَاؤُهُ تَعْبِيرٌ، وَأَفْعَالُهُ تَفْهِيمٌ، وَذَاتُهُ حَقِيقَةٌ، وَكُنْهُهُ تَفْرِقَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ.

قَدْ جَهِلَ اللهَ مَنِ اسْتَوْصَفَهُ، وَتَعَدَّاهُ مَنْ مَثَّلَهُ، وَأَخْطَأَهُ مَنِ اكْتَنَهَهُ، فَمَنْ قَالَ: « أَيْنَ؟ » فَقَدْ بَوَّأَهُ، وَمَنْ قَالَ: « فِيمَ؟ » فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ: « إِلاَمَ؟ » فَقَدْ نَهَّاهُ، وَمَنْ قَالَ: « لِمَ؟ » فَقَدْ عَلَّلَهُ، وَمَنْ قَالَ: « كَيْفَ؟ » فَقَدْ شَبَّهَهُ، وَمَنْ قَالَ: « إِذْ؟ » فَقَدْ وَقَّتَهُ، وَمَنْ قَالَ: « حَتَّىٰ؟ » فَقَدْ غَيَّاهُ، وَمَنْ غَيَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ وَصَفَهُ، وَمَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ أَلْحَدَ فيهِ، وَمَنْ بَعَّضَهُ فَقَدْ عَدَلَ عَنْهُ، لاَ يَتَغَيَّرُ اللهُ تَعَالَىٰ بِتَغْيِيرِ الْمَخْلُوقِ، كَمَا لاَ يَتَحَدَّدُ بِتَحْدِيدِ الْمَحْدُودِ.

أَحَدٌ لاَ بِتَأُوِيلِ عَدَدٍ، صَمَدٌ لاَ بِتَبْعِيضِ بَدَدٍ، بَاطِنٌ لاَ بِمُدَاخَلَةٍ، ظَاهِرٌ لاَ بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ، مُتَجَلٍّ لاَ بِاسْتِهْلاَلِ رُؤْيَةٍ، فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَةٍ (حَرَكَةٍ)، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيٌّ لاَ بِٱسْتِفَادَةٍ، مُدَبِّرٌ لاَ بِحَرَكَةٍ، سَمِيعٌ لاَ بِآلَةٍ، بَصِيرٌ لاَ بِأَدَاةٍ، قَرِيبٌ لاَ بِمُدَانَاةٍ، بَعِيدٌ لاَ بِمَسَافَةٍ، مَوْجُودٌ لاَ بَعْدَ عَدَمٍ.

لاَ تَحْوِيهِ الأَمَاكِنُ، وَلاَ تَصْحَبُهُ (تَتَضَمَّنُهُ) الأَوْقَاتُ، وَلاَ تَرْفِدُهُ (تُقَيِّدَهُ) الأَدَوَاتُ، وَلاَ تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ، وَلاَ تَأْخُذُهُ السِّنَاتُ، ثَبَتَ لَهُ مَعْنَىٰ الرُّبُوبِيَّةِ إِذْ لاَ مَرْبُوبٌ، وَحَقيقَةُ الأُلُوهِيَّةِ إِذْ لاَ مَأْلُوهٌ، وَمَعْنَىٰ الْعِلْمِ إِذْ لاَ مَعْلُومٌ، وَتَأْوِيلُ السَّمْعِ إِذْ لاَ مَسْمُوعٌ، وَوُجُوبُ الْقُدْرَةِ إِذْ لاَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، سَبَقَ الأَوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَٱلإِبْتِدَاءَ أَزَلُهُ (أَوَّلُهُ).

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ، وَبِتَجْهِيرِهِ الْجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ جَوْهَرَ لَهُ، وَبِإِنْشَائِهِ الْبَرَايَا عُرِفَ أَنْ لاَ مَنْشَأَ لَهُ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأَشْيَاءِ الْمُقْتَرِنَةِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ.

3-بيان أن كل القوانين الطبيعية من الله

ضَادَّ النُّورَ بِٱلظُّلْمَةِ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، وَالْجُمُودَ (الْيُبْسَ) بِالْبَلَلِ، وَالْخَشِنَ بِٱللِّينِ، وَالْحَرُورَ (وَالْحُرُورَ) بِٱلصَّرْدِ، مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُقَارِنٌ (مُقَارِبٌ) بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا، دَالَّةٌ بِتَفْرِيقِهَا عَلَىٰ مُفَرِّقِهَ، وَبِتَأْلِيفِهَا عَلَىٰ مُؤَلِّفِهَا، شَاهِدَةٌ بِغَرَائِزِهَا أَنْ لاَ غَرِيزَةَ لِمُغْرِزِهَا، دَالَّةٌ بِتَفَاوُتِهَا أَنْ لاَ تَفَاوُتَ فِي مُفَاوِتِهَا، مُخْبِرَةٌ بِتَوْقِيتِهَا أَنْ لاَ وَقْتَ لِمُوَقِّتِهَا، حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ لِيُعْلَمَ أَنْ لاَ حِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.

جَعَلَهَا -سُبْحَانَهُ- دَلاَئِلَ عَلَىٰ رُبُوبِيَّتِهِ، وَشَوَاهِدَ عَلَىٰ غَيْبَتِهِ، وَنَوَاطِقَ عَلَىٰ حِكْمَتِهِ، إِذْ يَنْطِقُ تَكَوُّنُهُنَّ عَلَىٰ حَدَثِهِنَّ، وَيُخْبِرْنَ بِوُجُودِهِنَّ عَنْ عَدَمِهِنَّ، وَيُنْبِئْنَ بِتَنَقُّلِهِنَّ عَنْ زَوَالِهِنَّ، وَيُعْلِنَّ بِأُفُولِهِنَّ أَنْ لاَ أُفُولَ لِخَالِقِهِنَّ، َوذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ ثَنَاوُهُ-: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ "الذاريات -49".

فَرَّقَ بَيْنَ قَبْلُ وَبَعْدُ لِيُعْلَمَ أَنْ لاَ قَبْلَ لَهُ وَلاَ بَعْدَ، لَيْسَ مُذْ خَلَقَ الْخَلْقَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ، وَلاَ بِٱسْتِحْدَاثِهِ الْبَرَايَا اسْتَحَقَّ اسْمَ الْبَارِئِ، فَرَّقَهَا لاَ مِنْ شَيْءٍ، وَأَلَّفَهَا لاَ بَشَيْءٍ، وَقَدَّرَهَا لاَ بِٱهْتِمَامٍ، لاَ تَقَعُ الأَوْهَامُ عَلَىٰ كُنْهِهِ، وَلاَ تُحِيطُ الأَفْهَامُ بِذَاتِهِ، لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وَلاَ يُوَقِّتُهُ « مَتَىٰ »، وَلاَ تُدْنِيهِ « قَدْ »، وَلاَ تَحْجُبُهُ « لَعَلَّ »، وَلاَ تُقَارِنُهُ « مَعً »، وَلاَ تَشْتَمِلُهُ « هُوَ »، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وَتُشِيرُ الآلاَتُ إِلَىٰ نَظَائِرِهَا، وَفِي الأَشْيَاءِ تُوجَدُ أَفْعَالُهَا وَعَنِ الْفَاقَةِ تُخْبِرُ الأَدَوَاتُ، وَعَنِ الضِّدَّ يُخْبِرُ التَّضَادُ، وَإِلَىٰ شَبْهِهِ يَؤُولُ الشَّبِيهُ، وَمَعَ الأَحْدَاثِ أَوْقَاتُهَا، وَبِٱلأَسْمَاءِ تَفْتَرِقُ صِفَاتُهَا، وَمِنْهَا فَصَلَتْ قَرَائِنُهَا، وَإِلَيْهَا آلَتْ أَحْدَاثُهَا، مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ (الْقِدْمِيَّةَ)، وَحَمَلَتْهَا « قَدُ » الأَزَلِيَّةَ، وَجَنَّبَتْهَا « لَوْلاَ » التَّكْمِلَةَ (نَفَتْ عَنْهَا « لَوْلاَ » الْجَبْرِيَّةَ)، إِفْتَرَقَتْ فَدَلَّتْ عَلَىٰ مُفَرَّقِهَا، وَتَبَايَنَتْ فَأَعْرَبَتْ عَنْ مُبَايِنِهَا، بِهَا تَجَلَّىٰ صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وَبِهَا احْتَجَبَ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَٱمْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ، وَإِلَيْهَا تَحَاكَمَ الأَوْهَامُ، وَفِيهَا أُثْبِتَتِ الْعِبْرَةُ، وَمِنْهَا أُنِيطَ الدَّلِيلُ، وَبِالْعُقُولِ يُعْتَقَدُ التَّصْدِيقُ بِاللهِ، وَبِٱلإِقْرَارِ يَكُونُ الإِيمَانُ.

4- معنى الدين والمعرفة والتوحيد

لاَ دِينَ إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ، وَلاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِتَصْدِيقٍ، وَلاَ تَصْدِيقَ إِلاَّ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، وَلاَ تَوْحِيدَ إِلاَّ بِٱلإِخْلاَصِ، وَلاَ إِخْلاَصَ مَعَ التَّشْبِيهِ، وَلاَ نَفْيَ مَعَ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، وَلاَ تَجْرِيدَ إِلاَّ بِاسْتِقْصَاءِ النَّفْيِ كُلِّهِ، لأَنَّ إِثْبَاتَ بَعْضِ التَّشْبِيهِ يُوجِبُ الْكُلَّ، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ كُلُّ التَّوْحِيدِ بِبَعْضِ النَّفْيِ دُونَ الْكُلِّ، وَٱلإِقْرَارُ نَفْيُ الإِنْكَارِ، وَلاَ يُنَالُ الإِخْلاَصُ بِشَيْءٍ مِنَ الإِنْكَارِ.

كُلُّ مَوْجُودٍ فِي الْخَلْقِ لاَ يُوجَدُ فِي خَالِقِهِ، وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ فِيهِ يَمْتَنِعُ فِي صَانِعِهِ، لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، وَلاَ يُمْكِنُ فيهِ التَّجْزِئَةُ وَلاَ الإِتِّصَالُ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ، وَيَحْدُثُ فيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ.

إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ، وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ، وَلامْتَنَعَ مِنَ الأَزَلِ مَعْنَاهُ، وَلَمَا كَانَ لِلأَزَلِ مَعْنَىً إِلاَّ مَعْنَىٰ الْحَدَثِ، وَلاَ لِلْبَارِئِ مَعْنَىً إِلاَّ مَعْنَىٰ الْمَبْرُوءِ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ (إِذَا) وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ، وَلالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ (إِذَا) لَزِمَهُ النُّقْصَانُ، وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الأَزَلِ مَنْ لاَ يَمْتَنِعُ مِنَ الْحَدَثِ، وَكَيْفَ يَسْتَأْهِلُ الدَّوَامَ مَنْ تَنْقُلُهُ الأَحْوَالُ وَٱلأَعْوَامُ، وَكَيْفَ يُنْشِئُ الأَشْيَاءَ مَنْ لاَ يَمْتَنِعُ مِنَ الإِنْشَاءِ، وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ، وَلاقْتَرَنَتْ صِفَاتُهُ بِصِفَاتِ مَا دُونًهُ، لَيْسَ فِي مُحَالِ الْقَوْلِ حُجَّةٌ، وَلاَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْهُ جَوَابٌ.

خَرَجَ بِسُلْطَانِ الإِمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ، الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الأُفُولُ، لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الأَبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ.

5- في أن الله ناءٍ عن وهم الخلق والحواس

لاَ تَنَالُهُ الأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتَحُسَّهُ، وَلاَ تَلْمِسُهُ الأَيْدِي فَتَمَسَّهُ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الأَحْوَالِ، وَلاَ تُبْليهِ اللَّيَالِي وَٱلأَيَّامُ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَٱلظَّلاَمُ، وَلاَ يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الأَجْزَاءِ، وَلاَ بِالْجَوَارِحِ وَٱلأَعْضَاءِ، وَلاَ بِعَرَضٍ مِنَ الأَعْرَاضِ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَٱلأَبْعَاضِ، وَلاَ يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ، وَلاَ انْقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ، وَلاَ أَنَّ الأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيهِ، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ.

لَيْسَ فِي الأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِجٍ.

يُخْبِرُ لاَ بِلِسَانٍ، وَلَهَوَاتٍ، وَيَسْمَعُ لاَ بِخُرُوقٍ وَأَدَوَاتٍ، يَقُولُ وَلاَ يَتَلَفَّظُ (يَلْفِظُ) وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ، وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ، وَيُحِبُّ وَيَرْضَىٰ مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ: « كُنْ » فَيَكُونُ، لاَ بِصَوْتٍ يُقْرَعُ، وَلاَ بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ -سُبْحَانَهُ- فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَـٰهاً ثَانِياً، لاَ يُقَالُ: « كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ »، فَتَجْرِي عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ (بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا) فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَالْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ.

خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَىٰ غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَىٰ خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنْشَأَ الأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ، وَأَرْسَاهَا عَلَىٰ غَيْرِ قَرَارٍ، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بَغَيْرِ دَعَائِمَ، وَحَصَّنَهَا مِنَ الأَوَدِ وَٱلإِعْوِجَاجِ، وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَٱلإِنْفِرَاجِ، أَرْسَىٰ أَوْتَادَهَا، وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا، وَٱسْتَفَاضَ عُيُونَهَا، وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا، فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ، هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْعَالِي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ، لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَيَطْلُبَهُ (مِنْهَا شَيْءٌ طَلَبَهُ)، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَىٰ ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ.

6- خضوع الأشياء وانصياعها لله تعالى

خَضَعَتِ الأَشْيَاءُ لَهُ، وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ، لاَ تَسْتَطيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَىٰ غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَلاَ نَظِيرٌ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ، هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّىٰ يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا، وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَٱخْتِرَاعِهَا، وَكَيْفَ وَلَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا -مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَسَائِمِهَا، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا (أَشْبَاحِهَا) وَأَجْنَاسِهَا، وَمُتَبَلَّدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا- عَلَىٰ إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ، مَا قَدَرَتْ عَلَىٰ إِحْدَاثِهَا، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَىٰ إِيجَادِهَا، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَتَاهَتْ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِٱلضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا.

وَإِنَّ اللهَ (وَإِنَّهُ) -سُبْحَانَهُ- يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذٰلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْتٍ وَلاَ مَكَانٍ، وَلاَ حِينٍ وَلاَ زَمَانٍ، عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآجَالُ وَٱلأَوْقَاتُ، وَزَالَتِ السِّنُونَ وَٱلسَّاعَاتُ، فَلاَ شَيْءَ إِلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الأُمُورِ.

بِلاَ قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وَبِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا، وَلَوْ قَدَرَتْ عَلَىٰ الإِمْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا.

لَمْ يَتَكَأَّدْهُ (يَتَكَاءَدْهُ) صُنْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ، وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ (مَا بَرَأَهُ وخَلَقَهُ)، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَلاَ لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَنُقْصَانٍ، وَلاَ لِلإِسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَىٰ نِدٍّ مُكَاثِرٍ، وَلاَ لِلإِحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ، وَلاَ لِلإِزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ، وَلاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ، وَلاَ لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا.

ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لاَ لِسَأْمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي (مِنْ) تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا، وَلاَ لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ، وَلاَ لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ، لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوهُ إِلَىٰ سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، وَلَـٰكِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ، ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلاَ اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا، وَلاَ لانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَىٰ حَالِ اسْتِئْنَاسٍ، وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَعَمَىً إِلَىٰ حَالِ عِلْمٍ وَالْتِمَاسٍ، وَلاَ مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ إِلَىٰ غِنَىً وَكَثْرَةٍ، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَةٍ إِلَىٰ عِزٍّ وَقُدْرَةٍ. (للخطبة تتمة لم يتم العثور عليها).