(5)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

في توحيد اللهَ تعالىٰ وٱلتزهيد في الدنيا

1- بيانه فوائد التقوى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِٱلنِّعَمِ، وَٱلنِّعَمَ بِٱلشُّكْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَىٰ آلاَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَىٰ بَلاَئِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَىٰ هٰذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ إِلَىٰ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ: عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ، وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ، وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ، وَوَقَفَ عَلَىٰ الْمَوْعُودِ، إِيمَاناً نَفَىٰ إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ، وَيَقِينُهُ الشَّكَّ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ، لاَ يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ (عَنْهُ).

أُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَىٰ اللهِ -سُبْحَانَهُ- الَّتِي هِيَ الزَّادُ، وَبِهَا الْمَعَادُ (الْمَعَاذُ): زَادٌ مُبَلِّغٌ (مُبْلِغٌ) وَمَعَادٌ (وَمَعَاذٌ) مُنْجِحٌ، دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ، وَوَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ، فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا، وَفَازَ وَاعِيهَا.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ تَقْوَىٰ اللهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّىٰ أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ، فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِٱلنَّصَبِ، وَٱلرَّيَّ بِٱلظَّمَإِ، وَٱسْتَقْرَبُوا الأَجَلَ، فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الأَمَلَ، فَلاَحَظُوا الأَجَلَ.

2- التحذير من الدنيا

ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ، وَغِيَرٍ وَعِبَرٍ، فَمِنَ الْفَنَاءِ (فَمِنْ فَنَائِهَا) أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ (مُوَتِّرٌ) قَوْسَهُ، مُفَوِّقٌ نَبْلَهُ، لاَ تُخْطِئُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤْسَىٰ جِرَاحُهُ، يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ، وَٱلشَّبَابَ بِالْهَرَمِ، وَٱلصَّحِيحَ بِٱلسَّقَمِ، وَٱلنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ، آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ، وَمِنَ الْعَنَاءِ (وَمِنْ عَنَائِهَا) أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لاَ يَأْكُلُ، وَيَبْنِي مَا لاَ يَسْكُنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَىٰ اللهِ -سُبْحَانَه- لاَ مَالاً حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ، وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَىٰ الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً، لَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ، وَبُؤْساً نَزَلَ، وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلىٰ أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ (فَيَقْطَعُهُ) حُضُورُ أَجَلِهِ، فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ.

كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِٱلإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِٱلسِّتْرِ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَمَا ابْتَلَىٰ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَحَداً بِمِثْلِ الإِمْلاَءِ لَهُ.

فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَعَزَّ (أَغَرَّ) سُرُورَهَا، وَأَظْمَأَ رَيَّهَا، وَأَضْحَىٰ فَيْئَهَا، لاَ جَاءٍ يُرَدُّ، وَلاَ مَاضٍ يَرْتَدُّ.

3- الترغيب بالآخرة

وَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلِحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لانْقِطَاعِهِ عَنْهُ، إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عَيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عَيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ، فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعَيَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ.

وَٱعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ فِي الآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ فِي الآخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا، فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ، وَمَزيدٍ خَاسِرٍ.

إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهيتُمْ عَنْهُ، وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ، قَدَ تُكُفِّلَ لَكُمْ بِٱلرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ، فَلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَىٰ بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ -وَاللهِ- لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ، وَدَخِلَ الْيَقِينُ، حَتَّىٰ كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُم، وَكَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ.

فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الأَجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَىٰ مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجىٰ مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ، مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ.

الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي، وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي، فَـ ﴿اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ "آل عمران -102".