(6)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

فِي وحدانية الله سبحانه وتعالى

روي عن نوف البَكالي قال: خطبَنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي عليه السلام بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مدرعة من صوف، وحمائل سيفه ليف، وفِي جبينه ثفنة من أثر السجود.

1- بيانه صفات الله الخاصة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، لأَنَّهُ ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ "الرحمن -29" مِنْ إِحْدَاثِ بَدِيعٍ لَمْ يَكُنْ، الَّذِي لَمْ يُولَدْ -سُبْحَانَهُ- فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً، وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ شَبَحاً مَاثِلاً، وَلَمْ تُدْرِكْهُ الأَبْصَارُ فَيَكُونَ بَعْدَ انْتِقَالِهَا حَائِلاً، الَّذِي لَيْسَتْ لأَوَّلِيَّتِهِ نِهَايَةٌ، وَلاَ لآخِرِيَّتِهِ حَدٌّ وَلاَ غَايَةٌ، الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلَمْ (وَلاَ) يَسِْبقْهُ زَمَانٌ، وَلَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِـ « أَيْنَ »، وَلاَ بِـ « مَا »، وَلاَ بِمَكَانٍ، الَّذِي بَطَنَ مِنْ خَفِيَّاتِ الأُمُورِ، وَ (بَلْ) ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا (يُرَىٰ) فِي خَلْقِهِ مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ، الَّذِي سُئِلَتِ الأَنْبِيَاءُ عَنْهُ فَلَمْ تَصِفْهُ بِحَدٍّ، بَلْ وَصَفَتْهُ بِأَفْعَالِهِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ عُقُولُ الْمُتَفَكِّرِينَ جَحْدَهُ، لأَنَّ مَنْ كَانَتِ السَّمٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِطْرَتَهُ، وَهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ، فَلاَ مَدْفَعَ لِقُدْرَتِهِ، الَّذِي بَانَ مِنَ الْخَلْقِ فَلاَ شَيْءَ كَمِثْلِهِ، الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ لِعِبَادَتِهِ، وَأَقْدَرَهُمْ عَلَىٰ طَاعَتِهِ بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ، وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ، فَعَنْ بَيِّنَةٍ هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَعَنْ بَيِّنَةٍ (بِمَنِّهِ) نَجَا مَنْ نَجَا، وَللهِ الْفَضْلُ مُبْتَدَءاً وَمَعيداً.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ -وَلَهُ الْحَمْدُ- افْتَتَحَ الْكِتَابَ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ، وَخَتَمَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَحُكْمَ الآخِرَةِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ، فَقَالَ ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ "الزمر -75".

اَلْحَمْدُ للهِ اللاَّبِسِ الْكِبْرِيَاءَ بِلاَ تَجْسِيدٍ، وَالْمُرْتَدِي الْجَلاَلَ بِلاَ تَمْثِيلٍ، وَالْمُسْتَوِي عَلَىٰ الْعَرْشِ بِلاَ زَوَالٍ، وَالْمُتَعَالِي عَنِ الْخَلْقِ بِلاَ تَبَاعُدٍ عَنْهُمْ، وَالْقَرِيبِ مِنْهُمْ بِلاَ مُلاَمَسَةٍ مِنْهُ لَهُمْ، لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يُنْتَهَىٰ إِلَىٰ حَدِّهِ، وَلاَ لَهُ مِثْلٌ فَيُعْرَفُ بِمِثْلِهِ.

ذَلَّ مَنْ تَجَبَّرَ غَيْرُهُ، وَصَغُرَ مَنْ تَكَبَّرَ دُونَهُ، وَتَوَاضَعَتِ الأَشْيَاءُ لِعَظَمَتِهِ، وَٱنْقَادَتْ لِسُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ، وَكَلَّتْ عَنْ إِدْرَاكِهِ طُرُوفُ الْعُيُونِ، وَقَصُرَتْ دُونَ بُلُوغِ صِفَتِهِ أَوْهَامُ الْخَلاَئِقِ.

الأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ قَبْلَ لَهُ، وَٱلآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ بَعْدَ لَهُ، وَٱلظَّاهِرُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ بِالْقَهْرِ لَهُ، وَالْمُشَاهِدُ لِجَميعِ الأَمَاكِنِ بِلاَ انْتِقَالٍ إِلَيْهَا، لاَ تَلْمَسُهُ لاَمِسَةٌ، وَلاَ تُحِسُّهُ حَاسَّةٌ، ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ "الزخرف -84".

أَتْقَنَ مَا أَرَادَ خَلْقَهُ مِنَ الأَشْيَاءِ كُلِّهَا لاَ بِمِثَالٍ سَبَقَ إِلَيْهِ، وَلاَ لُغُوبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ لَدَيْهِ، إِبْتَدَأَ مَا أَرَادَ ابْتِدَاءَهُ، وَأَنْشَأَ مَا أَرَادَ إِنْشَاءَهُ، عَلَىٰ مَا أَرَادَ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، الْجِنِّ وَٱلإِنْسِ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَتَمَكَّنَ فِيهِمْ طَاعَتُهُ.

2- في إقرار السمٰوات لله بالطاعة

فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمٰوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلاَ عَمَدٍ، قَائِمَاتٍ بِلاَ سَنَدٍ، دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ، غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَلاَ مُبْطِئَاتٍ، وَلَوْلاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِٱلرُّبُوبِيَّةِ، وَإِذْعَانُهُنَّ لَهُ بِٱلطَّوَاعِيَةِ (بِٱلطَّاعَةِ)، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، وَلاَ مَسْكَناً لِمَلاَئِكَتِهِ، وَلاَ مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ.

جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلَفِ فِجَاجِ الأَقْطَارِ، لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَلاَ اسْتَطَاعَتْ جَلاَبِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمٰوَاتِ مِنْ تَلأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ.

فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ، وَلاَ لَيْلٍ سَاجٍ، فِي بِقَاعِ الأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ، وَلاَ فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ، وَمَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَمَا تَلاَشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقِطِهَا عَوَاصِفُ الأَنْوَاءِ، وَٱنْهِطَالُ السَّمَاءِ، وَيَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَمَقَرَّهَا، وَمَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَمَجَرَّهَا، وَمَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا، وَمَا تَحْمِلُ الأُنْثَىٰ فِي بَطْنِهَا.

3- في وجوب الحمد والطاعة لله

نَحْمَدُهُ بِجَميعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا عَلَىٰ جَمِيعِ نَعْمَائِهِ كُلِّهَا، وَنَسْتَهْدِيهِ لِمَرَاشِدِ أُمُورِنَا، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وَنَسْتَغْفِرُهُ لِلذُّنُوبِ الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيّاً دَالاً عَلَيْهِ، وَهَادِياً إِلَيْهِ، فَهَدَانَا بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَٱسْتَنْقَذَنَا بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، ﴿وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ "الأحزاب -71"، وَنَال ثَوَاباً كَرِيماً جَزِيلاً، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً، وَٱسْتَحَقَّ عَذَاباً أَلِيماً.

فَأَنْجِعُوا بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمْعِ وَٱلطَّاعَةِ، وَإِخْلاَصِ النَّصِيحَةِ، وَحُسْنِ الْمُؤَازَرَةِ، وَأَعِينُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ بِلُزُومِ الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَهَجْرِ الأُمُورِ الْكَرِيهَةِ، وَتَعَاطَوُا الْحَقَّ بَيْنَكُمْ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، وَخُذُوا عَلَىٰ يَدَيْ الظَّالِمِ السَّفِيهِ، وَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَٱنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَٱعْرِفُوا لِذَوِي الْفَضْلِ فَضْلَهُمْ.

عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْهُدَىٰ، وَثَبَّتَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَىٰ التَّقْوىٰ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.