(7)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

في بيان قدرة الله وانفراده بالعظمة وأمر البعث

1- حمده عليه السلام لله تعالى وتعداده صفاته

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ]وَٱلصَّلاَةُ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ[.

أُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَىٰ اللهِ، وَأَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَ الَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ، أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ وَآخِرُهُ، وَمُبْتَدِئُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُعِيدُهُ،كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ضَارِعٌ إِلَيْهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُشْفِقٌ مِنْهُ، خَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، وَقَامَتْ بِأَمْرِهِ الأَرْضُ وَٱلسَّمٰوَاتُ، وَضَلَّتْ دُونَهُ الأَعْلاَمُ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الأَبْصَارُ.

سُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ، وَأَجَلَّ سُلْطَانَهُ، أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِكْمَةٌ، وَرِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةٌ، وَكَلاَمُهُ نُورٌ، وَسَخَطُهُ عَذَابٌ، وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، شَدِيدُ النَّقْمَةِ، قَرِيبُ الرَّحْمَةِ، يَقْضِي بِعِلْمٍ، وَيَعْفُو بِحِلْمٍ، غِنَىٰ كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ، وَمَا فِي قَعْرِ الْبُحُورِ، وَمَا تُرْخَىٰ عَلَيْهِ السُّتُورُ. مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ (مَصِيرُهُ).

أَللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَىٰ مَا تَأْخُذُ وَتُعْطِي، وَعَلَىٰ مَا تُعَافِي وَتَبْتَلِي (تُبْلِي وَتُولِي)، وَعَلَىٰ مَا تُمِيتُ وَتُحْيِي، حَمْداً يَكُونُ أَرْضَىٰ الْحَمْدِ لَكَ، وَأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ، وَأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ، حَمْداً يَمْلأُ مَا خَلَقْتَ، وَيَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ، حَمْداً لاَ يُحْجَبُ عَنْكَ، وَلاَ يُقْصَرُ (يَقْصُرُ) دُونَكَ، وَيَبْلُغُ فَضْلَ رِضَاكَ، يَفْضُلُ حَمْدَ مَنْ مَضَىٰ، وَيَعْرِفُ حَمْدَ مَنْ بَقَىٰ، حَمْداً لاَ يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ، وَلاَ يَفْنَىٰ مَدَدُهُ، فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ، إِلاَّ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومٌ لاَ تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ.

لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ، وَلَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ، أَدْرَكْتَ الأَبْصَارَ، وَأَحْصَيْتَ الأَعْمَالَ، وَأَخَذْتَ بِٱلنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ.

لَمْ تُعَنْ فِي قُدْرَتِكَ، وَلَمْ تُشَارَكْ فِي إِلاَهَيَّتِكَ، وَلاَ يَبْلُغُكَ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُكَ غَوْصُ الْفِطَنِ، وَلاَ يَنْتَهِي إِلَيْكَ نَظَرُ النَّاظِرِينَ، إِرْتَفَعَتْ عَنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ صِفَةُ قُدْرَتِكَ، فَلاَ يَنْتَقِصُ مَا أَرَدْتَ أَنْ يَزْدَادَ، وَلاَ يَزْدَادُ مَا أَرَدْتَ أَنْ يَنْتَقِصَ. وَكَيْفَ تُدْرِكُكَ الصِّفَاتُ، أَوْ تَحْوِيكَ الْجِهَاتُ، وَقَدْ حَارَتْ فِي مَلَكُوتِكَ مَذَاهِبُ التَّفْكِيرِ، وَحَسِرَ عَنْ إِدْرَاكِكَ بَصَرُ الْبَصِيرِ؟. وَمَا الَّذِي نَرَىٰ مِنْ خَلْقِكَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَٱنْتَهَتْ (وَٱنْبَهَرَتْ) عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سُتُورُ (سَوَاتِرُ) الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ.

فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ؟، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمٰوَاتِكَ؟، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلَىٰ مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ، ضَلَّ هُنَالِكَ التَّدْبِيرُ فِي تَصَارِيفِ الصِّفَاتِ لَكَ، فَمَنْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً، وَسَمْعُهُ وَالِهاً، وَفِكْرُهُ حَائِراً. وَكَيْفَ يُطْلَبُ عِلْمُ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عِزِّ شَأْنِكَ، إِذَا أَنْتَ فِي الْغُيُوبِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سِوَاكَ. لَمْ يَشْهَدْكَ أَحَدٌ حَيْثُ فَطَرْتَ الْخَلْقَ، وَلاَ نِدٌّ حَضَرَكَ حِينَ ذَرَأْتَ النُّفُوسَ.

2- بيان صفات الله وعلمه وعجز الخلائق

فَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً مُتَوَالِياً يَدُومُ وَلاَ يَبِيدُ، غَيْرَ مَفْقُودٍ فِي الْمَلَكُوتِ، وَلاَ مُنْتَقَصٍ فِي الْعِرْفَانِ، فِي اللَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ، وَفِي الصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ، بِالْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ، وَالْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ، كَلَّتِ الأَلْسُنُ عَنْ صِفَتِكَ، وَٱنْحَسَرَتِ الْعُقُولُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِكَ، وَتَوَاضَعَتِ الْمُلُوكُ لِهَيْبَتِكَ، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِعِزَّتِكَ، وَٱنْقَادَ كُلُّ شَيْءٍ لِقُدْرَتِكَ، وَخَضَعَتِ الرِّقَابُ لِسُلْطَانِكَ. وَكَيْفَ لاَ يَعْظُمُ شَأْنُكَ عِنْدَ مَنْ عَرَفَكَ، وَهُوَ يَرَىٰ مِنْ عِظَمِ خَلْقِكَ مَا يَمْلأُ قَلْبَهُ، وَيُذْهِلُ عَقْلَهُ، مِنْ رَعْدٍ يَقْرَعُ الْقُلُوبَ، وَبَرْقٍ يَخْطَفُ الْعُيُونَ؟.

لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ.

لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ، وَلاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ، وَلاَ يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَلاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَلاَ يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ، وَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ أَمْرِكَ.

كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ، وَكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ.

أَنْتَ الأَبَدُ لاَ أَمَدَ لَكَ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَىٰ لاَ مَحِيصَ عَنْكَ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ لاَ مَنْجَا مِنْكَ (إِلاَّ إِلَيْكَ).

بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ، وَإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ.

سُبْحَانَكَ أَللَّهُمَّ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَىٰ مِنْ خَلْقِكَ، وَمَا أَصْغَرَ عَظِيمَهُ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ، وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَىٰ مِنْ مَلَكُوتِكَ، وَمَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ، وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَحْقَرَهَا وَمَا أَصْغَرَهَا فِي جَنْبِ نِعَمِ (نَعِيمِ) الآخِرَةِ.

مِنْ مَلاَئِكَةٍ أَنْشَأْتَهُمْ إِنْشَاءاً، فَأَسْكَنْتَهُمْ سَمٰوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ، وَأَكْرَمْتَهُمْ بِجُودِكَ، وَٱئْتَمَنْتَهُمْ عَلَىٰ وَحْيِكَ، وَجَنَّبْتَهُمُ الآفَاتِ، وَوَقَيْتَهُمُ الْبَلِيَّاتِ، وَطَهَّرْتَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، فَلَيْسَ فِيهِمْ فَتْرَةٌ، وَلاَ عِنْدَهُمْ غَفْلَةٌ، لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ، وَلاَ سَهْوُ الْعُقُولِ، وَلاَ فَتْرَةُ الأَبْدَانِ.

هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوُفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ، لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْلاَبَ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الأَرْحَامَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ (لَمْ يَشْعَبْهُمْ) رَيْبُ الْمَنُونِ، وَلَوْلاَ تَقْوِيَتُكَ لَمْ يَقْوَوْا، وَلَوْلاَ تَثْبِيتُكَ لَمْ يَثْبُتُوا، وَلَوْلاَ رَحْمَتُكَ لَمْ يُطِيعُوا، وَلَوْلاَ أَنْتَ لَمْ يَكُونُوا. وَإِنَّهُمْ عَلَىٰ مَكَانِهِمْ مِنْكَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَٱسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا (لأَزْرَوْا) عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.

3- تسبيح الله تعالى وذم المقبلين على الدنيا

سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً، بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ مَحْمُوداً، وَسُبْحَانَكَ خَلَقْتَ دَاراً وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدَبَةً: مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً وَثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلاَ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا أَجَابُوا، وَلاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إِلَىٰ مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا. ]بَلْ[ أَقْبَلُوا عَلَىٰ جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَٱصْطَلَحُوا عَلَىٰ حُبِّهَا، وَأَعْمَتْ أَبْصَارَ صَالِحِي زَمَانِهَا، وَفِي قُلُوبِ فُقَهَائِهِمْ مِنْ عِشْقِهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَىٰ بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، وَأَمَاتَ لُبَّهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ (يَدِهِ) شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وَحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، لاَ يَنْزَجِرُ (لاَ يَزْدَجِرُ) مِنَ اللهِ بِزَاجِرٍ، وَلاَ يَتَّعِظَ مِنْهُ بِوَاعِظٍ، وَهُوَ يَرَىٰ الْمَأْخُوذِينَ عَلَىٰ الْغِرَّةِ، حَيْثُ فَارَقُوا الدُّورَ، وَصَارُوا إِلَىٰ الْقُبُورِ، وَحُشِرُوا إِلَىٰ دَارٍ دَانَتْ لَهُمْ فِيهَا دَوَاهِي الأُمُورُ، فَلاَ إِقَالَةَ وَلاَ رَجْعَةَ، فَعَلِمَ كُلُّ عَبْدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُوراً مَخْدُوعاً.

4- حال الإنسان لحظة خروج الروح

فَسُبْحَانَ اللهِ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَىٰ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، إِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ خُلَّتَانِ: سَكْرَةُ الْمَوْتِ، وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَٱغْبَرَّتْ ]لَهَا[ وُجُوهُهُمْ، وَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، وَعَرِقَتْ لَهَا جِبَاهُهُمْ، وَحَرَّكُوا لِمَخْرَجِ أَرْوَاحِهِمْ أَيْدِيَهُمْ.

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَىٰ صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ: فِيمَ أَفْنَىٰ عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ؟، وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، وَحُقُوقاً مَنَعَهَا، وَقَدْ أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبَهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَىٰ فِرَاقِهَا، تَبْقَىٰ لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَالْعِبْءُ عَلَىٰ ظَهْرِهِ، وَحِسَابُهَا عَلَيْهِ، وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَىٰ مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّىٰ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا، وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا، قَدْ حَازَهَا دُونَهُ.

فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ بِالْمَرْءِ يَزِيدُهُ، وَيُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ، حَتَّىٰ خَالَطَ لِسَانَهُ وَسَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِٱلنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَىٰ حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ.

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ بِهِ إِلْتِيَاطاً، فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ، فَذَهَبَتْ مِنَ الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ، وَهَمَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حُجَّتُهُ.

وَمَا زَالَ الْمَوْتُ يَزِيدُهُ حَتَّىٰ خَالَطَ عَقْلَهُ، فَصَارَ لاَ يَعْقِلُ بِعَقْلِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، وَلاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، ]وَلاَ يُبْصِرُ بِعَيْنِهِ[.

فَمَا زَالَ كَذٰلِكَ حَتَّىٰ بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ.

ثُمَّ زَادَهُ الْمَوْتُ حَتَّىٰ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً عِنْدَ أَهْلِهِ، قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ، لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً. ثُمَّ أَخَذُوا فِي غَسْلِهِ فَنَزَعُوا عَنْهُ ثِيَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ كَفَّنُوهُ فَلَمْ يُوَزِّرُوهُ، ثُمَّ أَلْبَسُوُهُ قَمِيصاً لَمْ يَكْفَؤُوا عَلَيْهِ أَسْفَلَهُ وَلَمْ يُزِرُّوهُ، ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلِىٰ مَخَطٍّ فِي الأَرْضِ فَأَدْخَلُوهُ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَىٰ عَمَلِهِ، وَٱنْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ، وَخَلُّوهُ بِمُفْظِعَاتِ الأُمُورِ، مَعَ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَوَحْشَتِهِ، فَذٰلِكَ مَثْوَاهُ حَتَّىٰ يَبْلَىٰ جَسَدُهُ، وَيَصِيرَ رُفَاتاً رَمِيماً.

حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَالأَمْرُ مَقَادِيرَهُ، وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ إِعَادَتِهِ وَتَجْدِيدِ خَلْقِهِ.

5- دك الأرض وحال أهل الجنة والنار

أَمَادَ (أَمَارَ) السَّمَاءَ فَفَتَقَهَا، وَفَطَرَهَا، وَأَفْزَعَ مَنْ فِيهَا، وَبَقِيَ مَلاَئِكَتُهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أَرْجَائِهَا، ثُمَّ وَصَلَ الأَمْرُ إِلَىٰ الأَرَضِينَ، وَالْخَلْقُ لاَ يَشْعُرُونَ، وَأَرَجَّ (فَأَرَجَّ) الأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا بِهِمْ، وَزَلْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَلَعَ جِبَالَهَا مِنْ أُصُولِهَا وَنَسَفَهَا وَسَيَّرَهَا، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ، وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ، ثُمَّ كَانَتْ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، قَدْ دُكَّتْ هِيَ وَأَرْضُهَا دَكَّةً وَاحِدَةً. وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهِمْ (أَخْلاَقِهِمْ)، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفْرِيقِهِمْ (تَفَرُّقِهِمْ)، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُ مِنْ تَوْقِيفِهِمْ، وَمَسْأَلَتِهِمْ (وَمُسَاءَلَتِهِمْ) عَنْ خَفَايَا الأَعْمَالِ، وَخَبَايَا الأَفْعَالِ، فَمَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ يُجْزِيهِ بِأَعْمَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ مِنْهُمْ يُجْزِيهِ بِإِسَاءَتِهِ، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ:

• أَنْعَمَ عَلَىٰ هٰؤُلاَءِ وَٱنْتَقَمَ (وَسَخِطَ) مِنْ هٰؤُلاَءِ (أُولاَءِ)، فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ، فَعَيْشٌ رَغَدٌ، وَمُجَاوَرَةُ رَبٍّ كَرِيمٍ، وَمُرَافَقَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَ تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الأَفْزَاعُ (الْفَجَائِعُ)، وَلاَ تَنَالُهُمُ الأَسْقَامُ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الأَخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الأَسْفَارُ.

• وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ، وَخَلَّدَهُمْ فِي النَّارِ، وَغَلَّ الأَيْدِيَ إِلَىٰ الأَعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالأَقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ، وَمُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، يَزِيدُ وَلاَ يَبِيدُ، وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَىٰ أَهْلِهِ، فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ (جَلَبٌ)، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِيفٌ هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يُفَادَىٰ أَسِيرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا، لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَىٰ، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَىٰ. فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِمِثْلِ هٰذَا الثَّوَابِ وَالعِقَابِ.

6- في معنى الرجاء بالله والتأسي بالنبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ

مَا لِلنَّاسِ مِنْ هَوْلٍ نَامَ طَالِبُهُ، وَأَدْرَكَهُ هَارِبُهُ، أَوْ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، تَشَاغَلَ أَهْلُ الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمْ، وَتَشَاغَلَ أَهْلُ الآخِرَةِ بِأُخْرَاهُمْ. فَأَمَّا أَهْلُ الدُّنْيَا فَأَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ، وَدَنَّسُوا أَعْرَاضَهُمْ، وَخَرَجُوا عَنْ دِيَارِهِمْ فِي طَاعَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلَهُمْ، تَعَبَّدُوا لَهُ، وَطَلَبُوا مَا فِي يَدِهِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ، وَوَطِئُوا عَقِبَهُ، فَصَارَ أَحَدُهُمْ يَرْجُو عَبْداً مِثْلَهُ، ]وَ[ لاَ يَرْجُو اللهَ وَحْدَهُ، يَدَّعِي -بِزَعْمِهِ- أَنَّهُ يَرْجُو اللهَ، كَذَبَ وَالْعَظِيمِ، مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ، فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ وَكُلُّ رَجَاءٍ إِلاَّ رَجَاءُ اللهِ -تَعَالَىٰ- فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ، وَكُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلاَّ خَوْفَ اللهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ.

يَرْجُو اللهَ فِي الْكَبِيرِ، وَيَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ، وَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي الرَّبَّ، وَيَخَافُ الْعَبِيدَ فِي الرَّبِّ، وَلاَ يَخَافُ فِي الْعَبِيدِ الرَّبَّ!. فَمَا بَالُ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ (سُبْحَانَهُ) يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِعِبَادِهِ (بِهِ لِعِبَادِهِ)؟!، أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً؟، أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً؟!. وَكَذٰلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطِي رَبَّهُ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً، وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِمْ (خَالِقِهِ) ضِمَاراً وَوَعْداً. وَكَذٰلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، وَكَبُرَ مَوْقِعُهَا فِي قَلْبِهِ، آثَرَهَا عَلَىٰ اللهِ -تَعَالَىٰ-، فَٱنْقَطَعَ إِلَيْهَا وَصَارَ عَبْداً لَهَا.

وَأَمَّا صَاحِبُ الطَّاعَةِ فَٱتَّبَعَ أَثَرَ نَبِيِّهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَكَ مَنَاهِجَهُ، وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَافٍ لَهُ (لَكَ) فِي الأُسْوَةِ ]الْـ[ حَسَنَةِ، وَدَليلٌ لَهُ (لَكَ) عَلَىٰ ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا، وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا. وَ ]قَدْ[ عَلِمَ أَنَّ اللهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً (إِخْتِبَاراً).

7- بيان زهد موسى وداوود وعيسى والنبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ

وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَىٰ كَلِيمِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ) إِذْ (حَيْثُ) يَقُولُ: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ "القصص -24". وَاللهِ مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الأَرْضِ، وَلَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَىٰ مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ.

وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ) صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ، وَقَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا، وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا.

وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمِ- (صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بِٱللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ (يُلْفِتُهُ)، وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ (يُلْهِيهِ)، وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ.

فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ]وَ[ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ، حِينَ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا، وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَهَا، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّىٰ، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّىٰ. وَأَحَبُّ الْعِبَادِ (عِبَادَ اللهِ) إِلَىٰ اللهِ تَعَالَىٰ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَىٰ أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ- أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ.

8- في شدة إعراض النبي صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عن الدنيا

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ (وَرَسُولُهُ)، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ (وَرَسُولُهُ)، لَكَفَىٰ بِهِ شِقَاقاً للهِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ -تَعَالَىٰ-، فَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا (رَسُولُ اللهِ) صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَأْكُلُ عَلَىٰ الأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَكُونُ السِّتْرَ عَلَىٰ بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ: يَا فُلاَنَةُ، -لإِحْدَىٰ أَزْوَاجِهِ (عَائِشَةُ)-، غَيِّبِيهِ عَنِّي (عَنْ عَيْنِي)، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا (زُخْرُفَهَا).

فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، أَوْ (وَلاَ) يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وَكَذٰلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.

وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَا يَدُلُّكَ عَلَىٰ مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا، إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ. فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ، أَكْرَمَ اللهُ بِذٰلِكَ مُحَمَّداً صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَمْ أَهَانَهُ، فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللهِ الْعَظِيمِ، وَأَتَىٰ بِٱلإِفْكِ الْعَظِيمِ. وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ (حِينَ) بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ.

فَتَأَسَّىٰ مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَٱقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ (يَأْمَنَنَّ هَلَكَتَهٌ). فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّداً صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَلَماً لِلسَّاعَةِ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ، بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً، وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعَا إِلَىٰ الْجَنَّةِ مُبَشِّراً، وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، وَوَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَىٰ حَجَرٍ، حَتَّىٰ مَضَىٰ لِسَبِيلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ. فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفَاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ.

وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً وَحُجَّةً، فَجَلَّتْ وَوَصَلَتْ إِلَيْنَا نِعَمُهُ بِنِعْمَةٍ أَسْبَغَهَا عَلَيْنَا، فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ، وَنَاصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَدَاعِياً، فَمَا أَعْظَمَ النِّعْمَةُ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَبِهِ هَدَانَا اللهُ مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَٱسْتَنْقَذَنَا بِهِ مِنْ جَمَرَاتِ النَّارِ، وَبَصَّرَنَا بِهِ مِنَ الْعَمَىٰ، وَعَلَّمَنَا بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَعَزَّنَا بِهِ فِي خَلَّتِنَا، وَكَثَّرَنَا بِهِ فِي قِلَّتِنَا، وَرَفَعَ بِهِ خَسِيسَنَا، وَنَحْنُ بَعْدُ نَرْجُو شَفَاعَتَهُ، وَاللهُ أَوْجَبَ حَقَّهُ عَلَيْنَا فَأَمَرَنَا بِٱلصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ.

9- في بيان فضل أهل البيت عليهم الصلاة والسلام

فلمّا فرغ عليه السلام من الصلاة قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد عظّمت الله فلم تأل في تعظيمه، وحمدته فلم تأل في تحميده، وحثثت الأمة وزهّدت ورغّبت. فقال عليه السلام:

نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَمَوَاطِنُ الْحِلْمِ، وَمَصَابِيحُ الظُّلَمِ، وَيَنَابِيعُ الْحِكَمِ. نَحْنُ أَصْحَابُ رَايَاتِ بَدْرٍ، لاَ يَنْصُرُنَا إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَخْذُلُنَا إِلاَّ مُنَافِقٌ. مَنْ نَصَرَنَا نَصَرَهُ اللهُ، وَمَنْ خَذَلَنَا خَذَلَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ.

أَلاَ إِنَّ نَاصِرَنَا وَمُحِبَّنَا يَنْتَظِرُ فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ الرَّحْمَةَ مِنَ اللهِ، وَإِنَّ عَدُوَّنَا وَمُبْغِضَنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ (اللَّعْنَةَ) مِنَ اللهِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ.

فَلْيُبَشَّرْ وَلِيُّنَا بِالأَرْبَاحِ الْوَافِرَةِ، وَالْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ، وَلْيَنْتَظِرْ عَدُوُّنَا النَّقْمَةَ فِي الدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ.

وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ أَقْوَاماً بَايَعُونِي وَفِي قُلُوبِهِمُ الْغَدْرُ. أَلاَ وَإِنِّي لَسْتُ أُقَاتِلُ إِلاَّ مَارِقاً يَمْرُقُ مِنْ دِينِهِ، وَنَاكِثاً بِبَيْعَتِهِ يُرِيدُ الْمُلْكَ لِنَفْسِهِ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ مَعَنَا مَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا.