(8)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

في توحيد الله تعالى ويذكر فيها عجيب خلق الطّاووس والهمجة

1- بيان صفات الله تعالى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، اَلْحَمْدُ للهِ خَالِقِ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ، وَمُسِيلِ الْوِهَادِ، وَمُخْصِبِ النِّجَادِ، لَيْسَ لأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلاَ لأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، هُوَ الأَوَّلُ لَمْ يَزَلْ، وَالْبَاقِي بِلاَ أَجَلٍ، خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ، حَدَّ الأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا.

لاَ تُقَدِّرُهُ الأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَالْحَرَكَاتِ، وَلاَ بِالْجَوَارِحِ وَالأَدَوَاتِ، لاَ يُقَالُ لَهُ: « مَتَىٰ؟ »، وَلاَ يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِـ « حَتَّىٰ » الظَّاهِرُ لاَ يُقَالُ: « مِمَّا؟ »، وَالْبَاطِنُ لاَ يُقَالُ: « فِيمَا »، وَلاَ يَزَالُ « مَهْمَا » ، وَلاَ مُمَازِجٌ مَعَ « مَا »، وَلاَ حَالٌّ بِـ « مَا »، وَلاَ خِيَالٌ وَهْماً. لاَ شَبَحٌ فَيَتَقَضَّىٰ (فَيُتَقَصَّىٰ / فَيُتَقَضَّىٰ)، وَلاَ جِسْمٌ فَيَتَجَزَّىٰ، وَلاَ بِذِي غَايَةٍ فَيُتَنَاهَىٰ، وَلاَ مَحْجُوبٌ فَيُحْوَىٰ، وَلاَ مُحْدَثٌ فَيُتَصَرَّفُ، وَلاَ مُسْتَتِرٌ فَيُتَكَشَّفُ.

كَانَ وَلاَ أَمَاكِنَ تَحْمِلُهُ أَكْنَافُهَا، وَلاَ حَمَلَةَ تَرْفَعُهُ بِقُوَّتِهَا، وَلاَ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، بَلْ حَارَتِ الأَوْهَامُ أَنْ تُكَيِّفَ الْمُكَيِّفَ لِلأَشْيَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَزَلْ بِلاَ مَكَانٍ، وَلاَ يَزُولُ بِٱخْتِلاَفِ الأَزْمَانِ، وَلاَ يَغْلِبُهُ شَأْنٌ بَعْدَ شَأْنٍ، الْبَعِيدُ مِنْ حَدْسِ الْقُلُوبِ، الْمُتَعَالِي عَنِ الأَشْيَاءِ وَٱلضُّرُوبِ، الْوِتْرُ، عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.

الْمَعْرُوفُ بِغَيْرِ كَيْفِيَّةٍ، فَمَعَانِي الْخَلْقِ عَنْهُ مَنْفِيَّةٌ، وَسَرَائِرُهُمْ عَلَيْهِ غَيْرُ خَفِيَّةٍ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الأَفْكَارُ، وَلاَ تُقَدِّرُهُ الْعُقُولُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِ الأَوْهَامُ، فَكُلُّ مَا قَدَّرَهُ عَقْلٌ أَوْ عُرِفَ لَهُ مِثْلٌ فَهُوَ مَحْدُودٌ. وَكَيْفَ يُوصَفُ بِالأَشْبَاحِ، وَيُنْعَتُ بِالأَلْسُنِ الْفِصَاحِ، مَنْ لَمْ يَحْلُلْ فِي الأَشْيَاءِ فَيُقَالُ: هُوَ فِيهَا كَائِنٌ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالُ: هُوَ عَنْهَا بَائِنٌ، وَلَمْ يَقْرُبْ مِنَ الأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ، وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِٱفْتِرَاقٍ، بَلْ هُوَ فِي الأَشْيَاءِ بِلاَ كَيْفِيَّةٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الشَّبَهِ مِنْ كُلِّ بَعِيدٍ، وَلاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ، وَلاَ كُرُورُ (كَوْنُ) لَفْظَةٍ، وَلاَ ازْدِلاَفُ رَبْوَةٍ (رَتْوَةِ)، وَلاَ انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ، فِي لَيْلٍ دَاجٍ، وَلاَ غَسَقٍ سَاجٍ، يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ، وَتَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ، فِي الأُفُولِ وَالْكُرُورِ، وَتَقَلُّبِ (تَقْلِيبِ) الأَزْمِنَةِ وَٱلدُّهُورِ، مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ، وَإِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ.

قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَمُدَّةٍ، وَكُلِّ إِحْصَاءٍ وَعِدَّةٍ، تَعَالَىٰ عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ (الْمَحْدُودُونَ) مِنْ صِفَاتِ الأَقْدَارِ، وَنِهَايَاتِ الأَقْطَارِ، وَتَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ، وَتَمَكُّنِ الأَمَاكِنِ.

2- في بيان أزلية الباري وحدوث الخلق

وَالْحَمْدُ للهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ، لاَ يُدْرَكُ بِوَهْمٍ، وَلاَ يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ، فَٱلْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْروُبٌ، وَإِلَىٰ غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ.

لَمْ يَخْلُقِ الأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ، وَلاَ مِنْ أَوَائِلَ كَانَتْ قَبْلَهُ أَبَدِيَّةٍ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَتْقَنَ خَلْقَهُ وَأَقَامَ حَدَّهُ، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ.

فَسُبْحَانَ مَنْ تَوَحَّدَ فِي عُلُوِّهِ، فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَلاَ لَهُ بِطَاعَةِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ (شَيْءٍ) انْتِفَاعٌ. عِلْمُهُ بِٱلأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِٱلأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمٰواتِ الْعُلَىٰ كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الأَرَضَينَ السُّفْلَىٰ، إِجَابَتُهُ لِلدَّاعِينَ سَرِيعَةٌ، وَالْمَلاَئِكَةُ لَهُ فِي السَّمٰوَاتِ وَالأَرْضِ مُطِيعَةٌ، وَلاَ يَشْغَلُهُ سَائِلٌ، وَلاَ يَنْقُصُهُ نَائِلٌ، وَلاَ يُنْظَرُ (يُبْصَرُ) بِعَيْنٍ، وَلاَ يُحَدُّ بِـ « أَيْنٍ؟ »، وَلاَ يُوصَفُ بِٱلأَزْوَاجِ، وَلاَ يُخْلَقُ بِعِلاَجٍ، وَلاَ يُدْرَكُ بِٱلْحَوَاسِّ، وَلاَ يُقَاسُ بِٱلنَّاسِ.

الَّذِي كَلَّمَ مُوسَىٰ تَكْلِيماً، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً، بِلاَ جَوَارِحَ وَلاَ أَدَوَاتٍ، وَلاَ نُطْقٍ وَلاَ لَهَوَاتٍ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَنِ الصِّفَاتِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَـٰهَ الْخَلْقِ مَحْدُودٌ، فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ.

3- خلق الأرض من بدائع قدرة الله تعالى

وَكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ، وَبَدِيعِ لَطَائِفِ (لَطِيفِ) صَنْعَتِهِ، أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ (الْيَمِّ) الزَّاخِرِ، الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ، يَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً، فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمٰوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا، فَٱسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ، وَقَامَتْ عَلَىٰ حَدِّهِ، وَأَرْسَىٰ أَرْضاً يَحْمِلُهَا الأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ، وَالْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ، قَدْ ذَلَّ لأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ، وَوَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ، وَجَبَلَ جَلاَمِيدَهَا، وَنُشُوزَ مُتُونِهَا وَأَطْوَادَهَا، فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا، فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ (رَسَبَتْ) أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا، وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأَشْهَقَ قِلاَلَهَا، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا، وَجَعَلَهَا لِلأَرْضِ عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً، فَسَكَنَتْ عَلَىٰ حَرَكَتِهَا، مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا (بِحَمَلَتِهَا)، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا.

فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا، وَأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا، فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً، وَبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً، فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ، رَاكِدٍ لاَ يَجْرِي، وَقَائِمٍ لاَ يَسْرِي، تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ، وَتَمْخَضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ "النازعات -26".

4- في لطف خلق الإنسان والحيوان

أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ، فِي ظُلُمَاتِ الأَرْحَامِ، وَمُضَاعَفَاتِ الأَسْتَارِ، بُدِئْتَ ﴿مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ "المؤمنون -12"، وَوُضِعْتَ ﴿فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ "المرسلات -21/22"، وَأَجَلٍ مَقْسُومٍ، تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً، لاَ تُحِيرُ دُعَاءً، وَلاَ تَسْمَعُ نِدَاءً، ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَىٰ دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا، فَمَنْ هَدَاكَ لاجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ، وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلِبَتِكَ (طَلَبِكَ) وَإِرَادَتِكَ.

هَيْهَاتَ، إِنَّ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَٱلأَدَوَاتِ، فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ، وَمِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُ.

إِبْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَمَوَاتٍ، وَسَاكِنٍ وَذِي حَرَكَاتٍ، وَأَقَامَ مِنَ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ، عَلَىٰ لَطِيفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمُسَلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَىٰ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلَفِ صُوَرِ الأَطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الأَرْضِ، وَخُرُوقَ فِجَاجِهَا، وَرَوَاسِيَ أَعْلاَمِهَا، مِنْ ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ، وَمُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ، وَالْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ.

كَوَّنَهَا-بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ- فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ، وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً، وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً، وَنَسَقَهَا عَلَىٰ اخْتِلاَفِهَا فِي الأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ، وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ، فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لاَ يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ، وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ (طُرِّقَ/فُرِّقَ) بِخِلاَفِ مَا صُبِغَ بِهِ.

5- وصفه عليه السلام مختلف حال الطاووس

وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ، الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيدٍ (تَعْدِيلٍ)، وَنَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ، بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ، وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ. إِذَا دَرَجَ إِلَىٰ الأُنْثَىٰ نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ، وَسَمَا بِهِ مُطِلاً عَلَىٰ رَأْسِهِ، كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ، يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ، وَيَمِيسُ (يَمِيشُ) بِزَيَفَانِهِ، يُفْضِي كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ، وَيَؤُرُّ بِمَلاَقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ.

أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَىٰ مُعَايَنَةٍ، لاَ كَمَنْ يُحِيلُ عَلَىٰ ضَعِيفِ إِسْنَادِهِ (ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ). وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا (تُنْشِجُهَا/تَسُحُّهَا) مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ (فَتَقِفُ ضَفَّتَيْ) جُفُونِهِ، وَأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَىٰ الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ (الْمُتَبَجِّسِ)، لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ، تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَمَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ وَشُمُوسِهِ، خَالِصَ الْعِقْيَانِ، وَفِلَذَ الزِّبَرْجَدِ.

فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ قُلْتَ: جَنِيٌّ جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ، وَإِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلاَبِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ، أَوْ مُونِقِ عَصْبِ الْيَمَنِ، وَإِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ قَدْ نُطِّقَتْ بِٱللُّجَيْنِ ِ(فِي اللُّجَيْنِ) الْمُكَلَّلِ.

6- شرحه عليه السلام سبب تصفيح الطاووس ذنبه

يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَيْهِ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ، فَإِذَا رَمىٰ بِبَصَرِهِ إِلَىٰ قَوَائِمِهَ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ، وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ (ضِئْضِئَةٌ) خَفِيَّةٌ، وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ، وَمَخْرَجُ عُنُقِهِ كَٱلإِبْرِيقِ، وَمَغْرِزُهَا إِلَىٰ حَيْثُ بَطْنُهُ (جَنْبِ بَطْنِهِ) كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ (الْوَشْمَةِ) الْيَمَانِيَّةِ، أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ، وَكَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُخَيَّلُ -لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ- أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ، وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الأُقْحُوَانِ، أَبْيَضٌ يَقَقٌ، فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ، وَقَلَّ صِبْغٌ إِلاَّ وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ، وَعَلاَهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَبَرِيقِهِ، وَبَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ، فَهُوَ كَٱلأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ، لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ، وَلاَ شُمُوسُ قَيْظٍ.

7- الوصف الدقيق لريش الطاووس

وَقَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ، وَيَعْرَىٰ مِنْ لِبَاسِهِ، فَيَسْقُطُ تَتْرَىٰ، وَيَنْبُتُ تِبَاعاً، فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الأَغْصَانِ، ثُمَّ يَتَلاَحَقُ نَامِياً حَتَّىٰ يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ، لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ (سَائِرَ) أَلْوَانِهِ، وَلاَ يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ. وَإِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ تَارَةً حُمْرَةً وَرْدِيَّةً، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً، وَأَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً، فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَىٰ صِفَةِ هٰذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ، أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ، وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَٱلأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ.

فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلاَّهُ لِلْعُيُونِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً، وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً، وَأَعْجَزَ الأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ.

وَسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ، وَالْهَمَجَةِ إِلَىٰ مَا فَوْقِهِمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَالْفِيَلَةِ، وَوَأَى‏ٰ عَلَىٰ نَفْسِهِ أَنْ لاَ يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ، إِلاَّ وَجَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ، وَالْفَنَاءَ غَايَتَهُ.

8- وصفه عليها السلام لبعض مشاهد الجنة

فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَىٰ الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، وَلَذَهِلْتَ بِٱلْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ (اصْطِفَافِ) أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَىٰ سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا، وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَأَفْنَانِهَا، وَطُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلَفِ أَكْمَامِهَا، تُجْنَىٰ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَىٰ مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا، وَيُطَافُ عَلَىٰ نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِٱلأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ، وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ. قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَىٰ بِهِمْ، حَتَّىٰ حَلُّوَا دَارَ الْقَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الأَسْفَارِ.

فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ، بِالْوُصُولِ إِلَىٰ مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ، لَزَهَقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هٰذَا إِلَىٰ مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا.

جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَىٰ (سَعَىٰ) بِقَلْبِهِ إِلَىٰ مَنَازِلِ الأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ.