(9)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

 في عظمة الله تعالى ويذكر فيها بديع خلقة الخفّاش والذرّة والجرادة

1- بيان العجز عن وصف الله تعالى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَىٰ بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ. هُوَ اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَىٰ الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً.

خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَىٰ غَيْرِ تَمْثِيلٍ، وَلاَ مَشُورَةِ مُشِيرٍ، وَلاَ مَعُونَةِ مُعِينٍ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ، فَأَجَابَ وَلَمْ يُدَافِعْ، وَٱنْقَادَ وَلَمْ يُنَازِعْ.

2- ذكر عظمة الله تعالى في خلق الحيوانات

وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَىٰ الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالْبَصَائِرَ مَدْخُولَةٌ، فَٱلطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لأَمْرِهِ، أَحْصَىٰ عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَٱلنَّفَسَ، وَأَرْسَىٰ قَوَائِمَهَا عَلَىٰ النَّدَىٰ وَالْيَبَسِ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا، وَأَحْصَىٰ أَجْنَاسَهَا، فَهٰذَا غُرَابٌ، وَهٰذَا عُقَابٌ، وَهٰذَا حَمَامٌ، وَهٰذَا نَعَامٌ، دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِٱسْمِهِ، وَتَكَفَّلَ لَهُ (كَفَلَ) بِرِزْقِهِ، وَأَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دَيْمَهَا، وَعَدَّدَ قِسَمَهَا، فَبَلَّ الأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا، وَأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا.

3- شرح تصرفات النملة الحكيمة

أَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَىٰ صَغِيرِ مَا خَلَقَ اللهُ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوَّىٰ لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ.

أُنْظُرُوا إِلَىٰ النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ (النَّظَرِ)، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَىٰ أَرْضِهَا، وَسَعَتْ فِي مَنَاكِبِهَا، وَصُبَّتْ (ضَنَّتْ) عَلَىٰ رِزْقِهَا (وَطَلَبَتْ رِزْقِهَا)، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَىٰ حُجْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وِرْدِهَا (وُرُودِهَا) لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لاَ يُغْفِلُهَا (لاَ يَغْفَلُ عَنْهَا) الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ (الْحَامِسِ).

وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، وَفِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً.

فَتَعَالَىٰ اللهُ الَّذِي أَقَامَهَا عَلَىٰ قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَىٰ دَعَائِمِهَا، لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَىٰ خَلْقِهَا قَادِرٌ. لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ، لاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ.

وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَىٰ أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ (النَّحْلَةِ)، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ، وَمَا الْجَلِيلُ وَٱللَّطِيفُ، وَٱلثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَٱلضَّعِيفُ، فِي خَلْقِهِ، إِلاَّ سَوَاءٌ.

4- بيان أن الخلق كله من عند الله تعالى

وَكَذٰلِكَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ، وَٱلرِّيَاحُ وَالْمَاءُ، فَٱنْظُرْ إِلَىٰ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَٱلنَّبَاتِ وَٱلشَّجَرِ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَٱخْتِلاَفِ هٰذَا اللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هٰذِهِ الْبِحَارِ وَٱلأَنْهَارِ، وَكَثْرَةِ هٰذِهِ الْجِبَالِ، وَطُولِ هٰذِهِ الْقِلاَلِ، وَتَفَرُّقِ هٰذِهِ اللُّغَاتِ، وَٱلأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ، فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ، وَجَحَدَ الْمُدَبِّرَ.

زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَٱلنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ، وَلاَ لإِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَىٰ حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا، وَلاَ تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا (وعَوْا)، وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ، أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ !.

5- شرح خلقة الله تعالى للجرادة

وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا (رَدَّهَا)، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ، حَتَّىٰ تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وَتَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ إِصْبِعاً مُسْتَدِقَّةً.

6- شرح عجيب خلقة الخفافيش

وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هٰذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلَ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَىٰ مَعَارِفِهَا، وَرَدَعَهَا بِتَلأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذِّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلاَقِهَا، فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِٱلنَّهَارِ عَلَىٰ أَحْدَاقِهَا (حِدَاقِهَا)، وَجَاعِلةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي إِلْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا، فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ. فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَىٰ الضِّبَابِ (الضُّلُوعِ) فِي وِجَارِهَا، أَطْبَقَتِ الأَجْفَانَ عَلَىٰ مَآقِيهَا، وَتَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا.

7- بيان قدرة الله تعالى في خلق الخفافيش

فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَٱلنَّهَارَ سَكَناً وَقَرَاراً، وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَىٰ الطَّيَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا الآذَانِ، غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَلاَ قَصَبٍ، إِلاَّ أَنَّكَ تَرَىٰ مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً، لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا (لَمْ) يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ. تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا، لاَجِئٌ إِلَيْهَا، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّىٰ تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ.

فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْءٍ، عَلَىٰ غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، ]وَ[ تَبَارَكَ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَيُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَوَجْهاً، وَيُلْقِي إِلَيْهِ بِٱلطَّاعَةِ سِلْماً وَضَعْفاً، وَيُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَخَوْفاً.