(10)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

في قدرة الله تعالى والحثّ على التقوى والعمل الصالح

1- بيان أزلية الله تعالى وقدرته

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، اَلْحَمْدُ للهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَالْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ (مَنْصَبَةٍ)، الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً، إِذْ لاَ سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجِ، وَلاَ حُجُبٌ ذَاتُ أَرْتَاجٍ، وَلاَ لَيْلٌ دَاجٍ، وَلاَ بَحْرٌ سَاجٍ، وَلاَ جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ، وَلاَ فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ، وَلاَ أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ، وَلاَ خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ، ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَوَارِثُهُ، وَإِلَـٰهُ الْخَلْقِ وَرَازِقُهُ، وَٱلشَّمْسُ وَالْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ، يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ، وَيُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ.

2- في الدعوة إلى التقوى

خَلَقَ الْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَٱسْتَعْبَدَ الأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ، وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ، قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَحْصَىٰ آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِهِمْ (وَعَدَّدَ أَنْفُسَهُمْ)، وَخَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ، وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الأَرْحَامِ وَٱلظُّهُورِ، إِلَىٰ أَنْ تَتَنَاهَىٰ بِهِمُ الْغَايَاتُ.

أَحْمَدُهُ إِلَىٰ نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَىٰ خَلْقِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ اللهُ غَيْرُ مَعْدُولٍ بِهِ، وَلاَ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَلاَ مَكْفُورٍ دِينُهُ، وَلاَ مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ، شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ، وَصَفَتْ دِخْلَتُهُ، وَخَلَصَ يَقِينُهُ، وَثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمُجْتَبَىٰ مِنْ خَلاَئِقِهِ، وَالْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ، وَالْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ، وَالْمُصْطَفَىٰ لِكَرَائِمِ (لِمَكَارِمِ) رِسَالاَتِهِ، وَالْمُوضَحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَىٰ، وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَىٰ.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِنْ قُلْتُمْ سَمِعَ، وَإِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ، وَبَادِرُوا الْمَوْتَ الَّذِي إِنْ هَرَبْتُمْ أَدْرَكَكُمْ، وَإِنْ أَقمْتُمْ أَخَذَكُمْ، وَإِنْ نَسِيتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ، فَإِنَّ تَقْوَىٰ اللهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ، وَذَخِيرَةُ مَعَادٍ، وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُو الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ.

3- حثه عليه السلام على الإستعداد للموت

فَٱعْمَلُوا وَالْعَمَلُ يُرْفَعُ، وَٱلتَّوْبَةُ تَنْفَعُ، وَٱلدُّعَاءُ يُسْمَعُ، وَالْحَالُ هَادِئَةٌ، وَٱلأَقْلاَمُ جَارِيَةٌ، وَبَادِرُوا بِٱلأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً، أَوْ مَرَضاً حَابِساً، أَوْ مَوْتاً خَالِساً، فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، وَمُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، وَمُبَاعِدُ طَيَّاتِكُمْ (طَيِّبَاتِكُمْ). زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَقِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، وَوَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ، وَتَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ، وَأَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ، وَعَظُمَتْ فيكُمْ سَطْوَتُهُ، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ، وَقَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ، فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ، وَٱحْتِدَامُ عِلَلِهِ، وَحَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ، وَغَوَاشِي سَكَرَاتِهِ، وَأَلِيمُ إِرْهَاقِهِ (إِزْهَاقِهِ)، وَدُجُوُّ أَطْبَاقِهِ، وَجُشُوبَةُ مَذَاقِهِ.

فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ، وَفَرَّقَ نَدِيَّكُمْ، وَعَفَّىٰ آثَارَكُمْ، وَعَطَّلَ دِيَارَكُمْ، وَبَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ: بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ، وَقَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ، وَآخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ.

فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَٱلإِجْتِهَادِ، وَٱلتَّأَهُّبِ وَٱلإِسْتِعْدَادِ، وَٱلتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ، وَلاَ تَغُرَّنَكُمُ الدُّنْيَا (الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَأَصَابُوا غِرَّتَهَا، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا، أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً، وَأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً، لاَ يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلاَ يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ، وَلاَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ.

4- أسباب تغيير حال الأمم من نعمة إلى نقمة

فَٱحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَرَّارَةٌ (غَدَّارَةٌ) خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لاَ يَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلاَ يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، وَلاَ يَرْكَدُ بَلاَؤُهَا.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا، وَالْمُخْلِدَ إِلَيْهَا (مَنْ أَمِلَهَا، وَتُخْلِفُ مَنْ رَجَاهَا)، وَلاَ تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا، وَ (بَلْ) تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا، وَأَيْمُ اللهِ إِنَّهَا سَتُورِثُ غَداً أَقْوَاماً النَّدَامَةَ وَالْحَسْرَةَ، بَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهَا، وَتَنَافُسِهِمْ فِيهَا، وَحَسَدِهِمْ وَبَغْيِهِمْ عَلَىٰ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ فِيهَا ظُلْماً وَعُدْوَاناً وَبَغْياً وَأَشِراً وَبَطَراً.

وَأَيْمُ اللهِ، إِنَّهُ مَا كَانَ (عَاشَ) قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ (غَضَارَةِ) نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ (كَرَامَةِ نِعَمِ اللهِ فِي مَعَاشِ دُنْيَا، وَلاَ دَائِمِ تَقْوَىٰ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَٱلشُّكْرِ لِنِعَمِهِ) فَزَالَ (فَأَزَالَ ذَلِكَ) عَنْهُمْ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ تَغْيِيرٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْوِيلٍ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا (وَالْحَادِثِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ)، وَقِلَّةِ مُحَافَظَةٍ، وَتَرْكِ مُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَزَّ-، وَتَهَاوُنٍ بِشُكْرِ نِعَمِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ "الرعد -11". لأَنَّ اللهَ -تَعَالَىٰ- لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ.

وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ (أَهْلَ الْمَعَاصِي وَكَسَبَةَ الذُّنُوبِ) حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ (إِذَا هُمْ حُذِّرُو زَوَالَ نِعَمِ اللهِ، وَحُلُولَ نَقْمَتِهِ، وَتَحْوِيلِ عَافِيَتِهِ)، أَيْقَنُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ- بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، فَأَقْلَعُوا وَتَابُوا، وَفَزِعُوا إِلَىٰ اللهِ رَبِّهِمْ -جَلَّ ذِكْرُهُ- بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ، وَوَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِقْرَارٍ مِنْهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَإِسَاءَتِهِمْ، لَصَفَحَ لَهُمْ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَإِذاً لأَقَالَهُمْ كُلَّ عَثْرَةٍ، وَلَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ، وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ (كَرَامَةِ نِعْمَةٍ، ثُمَّ أَعَادَ لَهُمْ مِنْ صَلاَحِ أَمْرِهِمْ، وَمِمَّا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، كُلَّ مَازَالَ عَنْهُمْ، وَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ).

5- حثه عليه السلام بالتوبة والتوجه إلى الله تعالى

أَيُّهَا (النَّاسُ) الْغَافِلُونَ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ، وَٱلتَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ، مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللهِ ذَاهِبيِنَ، وَإِلَىٰ غَيْرِهِ رَاغِبِينَ؟!.كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ (رَاحَ) بِهَا سَائِمٌ إِلَىٰ مَرْعَىً وَبِيٍّ، وَمَشْرَبٍ دَوِيٍّ (رَوِيٍّ)، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَىٰ لاَ تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا، إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا.

عِبَادَ اللهِ، زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ، وَٱنْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ، وَٱعْلَمُوا أَنَّ (أَنَّهُ) مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَىٰ نَفْسِهِ حَتَّىٰ يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا زَاجِرٌ وَلاَ وَاعِظٌ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِ الدُّنْيَا وَصُرُوفِهَا لَمْ تَنْجَعْ فيهِ الْمَوَاعِظُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ زَاجِرٌ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ -سُبْحَانَهُ- حَافِظٌ.

فَٱتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا النَّاسُ- حَقَّ تُقَاتِهِ، وَٱسْتَشْعِرُوا خَوْفَ اللهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ-، وَأَخْلِصُوا النَّفْسَ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبِيحِ مَا اسْتَفَزَّكُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِتَالِ وَلِيِّ الأَمْرِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَمَا تَعَاوَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ، وَتَشْتِيتِ الأَمْرِ، وَفَسَادِ صَلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، إِنَّ اللهَ ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ "الشورى -25"، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.