(11)

خُطْبَةٌ لَهُ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ

 
البلاغة

 مطابقة للمصدر - كتاب تمام نهج البلاغة - ط أولى 1414 هـ

تمام نهج
 

  المعروفة بالقاصعة فِي ذمّ إبليس على استكباره والتحذير من التعزّز والتكبّر

1- منازعة إبليس لله عز وجل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ وَٱخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمىً وَحَرَماً عَلَىٰٰ غَيْرِهِ، وَٱصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ، وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَىٰ مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذٰلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ- وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ "ص -71/74" اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَٱفْتَخَرَ عَلَىٰ آدَمَ بِخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لأَصْلِهِ، فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنَازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَٱدَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ.

أَلاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّرِهِ، وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَأَعَدَّ لَهُ فِي الآخِرَةِ سَعِيراً؟.

2- إختبار بني آدم والتحذير من التكبر على الله تعالى

وَلَوْ أَرَادَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ، وَطِيبٍ يَأْخُذُ الأَنْفَاسَ عَرْفُهُ، لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَظَلَّتِ الأَعْنَاقُ لَهُ خَاضِعَةً، وَلَخَفَّتِ الْبَلْوَىٰ فِيهِ عَلَىٰ الْمَلاَئِكَةِ. وَلكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِٱلإِخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلإِسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُمْ.

فَٱعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجُهْدَهُ الْجَهِيدَ الْجَمِيلَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ (تَعَالَىٰ وَتَقَدَّسَ)- سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ، لاَ يُدْرَىٰ أَمِنْ سِنِيِّ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِيِّ الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَىٰ اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟.

كَلاَّ، مَا كَانَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً. إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَىٰ الْعَالَمِينَ.

3- التحذير من الوقوع في حبائل إبليس

فَٱحْذَرُوا -عِبَادَ اللهِ- عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ، وَأَغْرَقَ إِلَيْكُمْ (لَكُمْ) بِٱلنَّزْعِ الشَّدِيدِ، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، وَ ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ "الحجر -39"، قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ، وَرَجْماً بِظَنٍّ مُصِيبٍ (غَيْرِ مُصِيبٍ)، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ. حَتَّىٰ إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ، وَٱسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فيكُمْ، فَنَجَمَتْ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَىٰ الأَمْرِ الْجَلِيِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ، فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ، وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ (الْقُلِّ)، وَأَوْطَؤُوكُمْ إِتْخَانَ الْجِرَاحَةِ، طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ، وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ، وَسَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَىٰ النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ، فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ جَرْحاً، وَأَوْرَىٰ فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً، مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ، وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ.

4- تعداده عليه السلام أسباب عداوة إبليس للبشر

فَٱجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ، وَلَهُ جِدَّكُمْ، فَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَىٰ أَصْلِكُمْ، وَوَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ، وَدَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ، وَأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ، يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَيَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ، وَلاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ، وَلاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ، وَحَلْقَةِ ضِيقٍ، وَعَرْصَةِ مَوْتٍ، وَجَوْلَةِ بَلاَءٍ.

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ، وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ، وَٱعْتَمِدُوا (اعْتَهِدُوا) وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَىٰ رُؤُوسِكُمْ، وَإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وَٱتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَأَعْوَاناً، وَرَجْلاً وَفُرْسَاناً، وَلاَ تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَىٰ ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ، سِوَىٰ مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَالْحَسَبِ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ، الَّذِي أَعْقَبَهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلَزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ (الْقَائِلِينَ) إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

أَلاَ وَقَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْغَيِّ (الْبَغْيِ)، وَأَفْسَدْتُمْ فِي الأَرْضِ، مُصَارَحَةً للهِ بِٱلْمُنَاصَبَةِ، وَمُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ، فَاللهَ اللهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، وَمَنَافِخُ الشَّيْطَانِ، الَّتِي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ الْمَاضِيَةَ، وَالْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، حَتَّىٰ أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، وَمَهَاوِيَ ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ، سُلُساً فِي قِيَادِهِ، أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ، وَتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ، وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ.

5- الحث على نبذ العصبية والفخر والحمية

 أَلاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمُ، الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَلَىٰ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ (الْهُجْنَةَ) عَلَىٰ رَبِّهِمْ، وَجَاحَدُوا اللهَ عَلَىٰ مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَمُغَالَبَةً لآلاَئِهِ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَٱتَّقُوا اللهَ -سُبْحَانَهُ- وَلاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً، وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً، وَلاَ تُطِيعُوا الأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ، إِتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ، وَجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَىٰ النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَىٰ أَلْسِنَتِهِمُ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً (ثَناً) فِي أَسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَىٰ نَبْلِهِ، وَمَوْطِئَ قَدَمِهِ، وَمَأْخَذَ يَدِهِ.

6- الحض على الإعتبار من الأمم السالفة

فَٱعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَٱتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ، وَٱسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ (تَسْتَعِيذُونَ بِهِ) مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ، وَٱسْتَعِدُّوا لِمُجَاهَدَتِهِ حَسَبَ الطَّاقَةِ، فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فِي الْكِبْرِ لأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ (أَوْلِيَائِهِ)، وَلكِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ (التَّكَاثُرَ)، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِٱلأَرْضِ خُدُودَهُمْ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا أَقْوَاماً (قَوْماً) مُسْتَضْعَفِينَ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللهُ بِالْمَخْمَصَةِ، وَٱبْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ، وَٱمْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ، وَمَخَضَهُمْ (مَحَّصَهُمْ) بِالْمَكَارِهِ.

فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَٱلسَّخَطَ بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ، جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَٱلإِخْتِبَارِ، فِي مَوَاضِعِ الْغِنَىٰ وَٱلإِقْتِدَارِ، فَقَدْ قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ-: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ "المؤمنون -55/56"، فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ- يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ.

7- سبب بعث الأنبياء من بين الضعفاء

وَلَقَدْ دَخَلَ مُوَسَىٰ بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ- عَلَىٰ فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ، إِنْ أَسْلَمَ، بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزِّهِ. فَقَالَ: أَلاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هٰذَيْنِ، يَشْرِطَانِ (يَشْتَرِطَانِ) لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَبَقَاءَ الْمُلْكِ، وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَٱلذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ (أَسْوِرَةٌ) مِنْ ذَهَبٍ؟. إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ، وَٱحْتِقَاراً للصُّوفِ وَلُبْسِهِ.

وَلَوْ أَرَادَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- بِأَنْبِيَائِهِ -حَيْثُ بَعَثَهُمْ- أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذُّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ (الْبُلْدَانِ)، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ، وَوُحُوشَ الأَرَضِينَ (طَيْرَ السَّمَاءِ، وَوَحْشَ الأَرْضِ)، لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ، وَٱضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ (اضْمَحَلَّ الأَبْنَاءُ/الإِبْتِلاَءُ)، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلِينَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ الأَسْمَاءُ أَهَالِيهَا عَلَىٰ مَعَانِيهَا. وَكَذٰلِكَ لَوْ أَنْزَلَ اللهُ ﴿مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ "الشعراء -4"، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلْوَىٰ عَنِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَلكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِ نِيَّاتِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَىٰ الأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلأُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنىً، وَخَصَاصَةٍ تَمْلأُ الأَبْصَارَ وَٱلأَسْمَاعَ أَذىً.

وَلَوْ كَانِتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لاَ تُرَامُ، وَعِزَّةٍ لاَ تُضَامُ، وَمُلْكٍ تُمَدُّ (تَمْتَدُّ) نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَىٰ الْخَلْقِ فِي الإِعْتِبَارِ (الإِخْتِبَارِ)، وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي (مِنَ) الإِسْتِكْبَارِ (الإِسْتِكْثَارِ)، وَلآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً، وَلكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الإِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَٱلتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، وَالإِسْتِكَانَةُ لأَمْرِهِ، وَالإِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لاَ تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ. وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَىٰ وَالإِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ.

8- سبب وضع بيت الله في أواعر الأرض

أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)- إِلَىٰ الآخِرِينَ مِنْ هٰذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً، ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْديَةِ قُطْراً، وَأَغْلَظِ مَحَالِّ الْمُسْلِمِينَ مِيَاهاً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ، وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ، وَقُرَىً مُنْقَطِعَةٍ، وَأَثَرٍ مِنْ مَوَاضِعِ قَطْرِ السَّمَاءِ دَاثِرٍ، لاَ يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ، ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ (أَغْطَافَهُمْ) نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقىٰ رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ، وَمَهَاوي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّىٰ يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً، يُهَلِّلُونَ للهِ حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ (يَزْمُلُونَ) عَلَىٰ أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ، قَدْ نَبَذُوا الْقُنَعَ وَٱلسَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمْ، ابْتِلاَءً عَظِيماً، وَٱمْتِحَاناً شَدِيداً، وَٱخْتِبَاراً مُبِيناً (مُهِيناً)، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَىٰ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَعِلَّةً لِمَغْفِرَتِهِ، وَوُصْلَةً إِلَىٰ جَنَّتِهِ.

وَلَوْ أَرَادَ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ، جَمِّ الأَشْجَارِ، دَانِي الثِّمَارِ، مُلْتَفِّ الْبُنَىٰ، مُتَّصِلِ الْقُرَىٰ، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ، وَعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ، وَزُرُوعٍ (رِيَاضٍ) نَاضِرَةٍ، وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ، وَحَدَائِقَ كَثِيرَةٍ، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ (صَغَّرَ) قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَىٰ حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ. وَلَوْ كَانَ الإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَٱلأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ، لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ (مُضَارَعَةَ/مُسَارَعَةَ) الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَىٰ مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ.

وَلكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَىٰ فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ وَفِتْنَتِهِ كَمَا قَالَ: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ "العنكبوت -1/3".

فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَىٰ، وَمَكْيَدَتُهُ الْكُبْرَىٰ، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاً فِي طِمْرِهِ.

9- أسباب فرض الصلاة والزكاة والصيام

وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ (بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ)، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً (تَخْضِيعاً) لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ (عَنَائِقِ) الْوُجُوهِ بِٱلتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَإِلْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِٱلأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَىٰ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ.

أُنْظُرُوا (فَٱنْظُرُوا) إِلَىٰ مَا فِي هٰذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ، وَقَدْعِ (قَطْعِ) طَوَالِعِ الْكِبْرِ.

10- نهيه عليه السلام عن التعصب لغير الأمور الحسنة

وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ، غَيْرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ، أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَىٰ آدَمَ لأَصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طينِيٌّ. وَأَمَّا الأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَقَالُوا: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ "سبأ -35".

فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأُمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَٱلنُّجَدَاءُ، مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ، وَيَعَاسِيبِ الْقَبَائِلِ، بِٱلأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ، وَٱلأَحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، وَٱلأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَٱلآثَارِ الْمَحْمُودَةِ. فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ، مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِٱلذِّمَامِ، وَٱلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَٱلأَخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، وَٱلإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَٱجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ.

11- حضه الناس على الإعتبار من الماضين

وَٱحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِٱلأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ، بِسُوءِ الأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَٱحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ، فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ (شَأْنَهُمْ)، وَزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ (فِيهِ) عَلَيْهِمْ، وَٱنْقَادَتِ النَّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ، مِنَ الإِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، وَٱللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ، وَٱلتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَٱلتَّوَاصِي بِهَا، وَٱجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وَتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الأَيْدِي.

وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَالْبَلاَءِ. أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءاً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءاً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟. إِتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً، فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمْ الْمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ، وَلاَ سَبِيلاً إِلَىٰ دِفَاعٍ، حَتَّىٰ إِذَا رَأَىٰ اللهُ -سُبْحَانَهُ- جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَىٰ الأَذىٰ فِي مَحَبَّتِهِ، وَٱلإِحْتِمَالِ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَٱلأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وَأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ (تَبْلُغِ) الآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.

فَٱنْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً، وَٱلأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً (مَتَّفِقَةً)، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَٱلأَيْدِي مُتَرَادِفَةً (مُتَرَافِدَةً)، وَٱلسُّيُوفُ مَتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً. أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَىٰ رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟.

12- فوائد الوحدة وعاقبة التفرقة

وَٱنْظُرُوا إِلَىٰ مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، وَٱخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَٱلأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ، وَبَقَّىٰ قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ، عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرينَ مِنْكُمْ.

فَٱعْتَبِرُوا بِحَالِ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ، وَبَنِي إِسْحَاقَ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ-، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الأَحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الأَمْثَالِ!.تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إِلَىٰ مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَافِي (مَهَابِّ) الرِّيحِ، وَنَكَدِ الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ، إِخْوَانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ، أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لاَ يَأْوُونَ إِلَىٰ جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلاَ إِلَىٰ‏ ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَىٰ عِزِّهَا، فَٱلأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَٱلأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْلٍ، وَأَطْبَاقِ جَهْلٍ، مِنْ بَنَاتٍ مَوْؤُدَةٍ، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ. فَٱنْظُرُوا إِلَىٰ مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِمْ حينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَىٰ دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ (الْتَقَتِ) الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ، قَدْ تَرَبَّعَتِ الأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَىٰ كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَىٰ مُلْكٍ ثَابِتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَىٰ الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأَرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الأُمُورَ عَلَىٰ مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ.

12- بركة الإسلام على الأمة وعاقبة التخلي عنه

أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللهِ الْمَضْرُوبِ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- قَدِ امْتَنَّ عَلَىٰ جَمَاعَةِ هٰذِهِ الأُمَّةِ، فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هٰذِهِ الأُلْفَةِ الَّتِي يَتَنَقَّلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إِلَىٰٰ كَنَفِهَا، بِنِعْمَةٍ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةٌ، لأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.

وَٱعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ بِٱسْمِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ (غَيْرَ) رَسْمَهُ، تَقُولُونَ: النَّارَ وَلاَ الْعَارَ!. كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الإِسْلاَمَ عَلَىٰ وَجْهِهِ، انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وَأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.

وَإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَىٰٰ غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، ثُمَّ لاَ جِبْرِيلَ وَلاَ مِيكَائِيلَ، وَلاَ مُهَاجِرِينَ وَلاَ أَنْصَارَ يَنْصُرُونَكُمْ، إِلاَّ الْمُقَارَعَةَ بِٱلسَّيْفِ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ.

وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ -تَعَالَىٰ- وَقَوَارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيَأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ- لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِي بَيْنَ أَيْدِيَكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَٱلنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَعَنَ اللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَالْحُكَمَاءَ (الْحُلَمَاءَ) لِتَرْكِ التَّنَاهِي.

أَلاَ وَقَدْ قَطَّعْتُمْ (قَطَعْتُمْ) قَيْدَ الإِسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ.

13- بيان أنه عليه السلام مأمورا بقتال من قاتل

أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَٱلنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ (الرِّدَّةِ) فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ، وَرَجَّةُ صَدْرِهِ. وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ، إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الأَرْضِ (البِلاَدِ) تَشَذُّراً (تَشَذُّذاً).

14- بيان منزلته وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله  

أَنَا وَضَعْتُ بِكَلاَكِلِ الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعي مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ (وَليدٌ)، يَضُمُّنِي إِلَىٰٰ صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ.

وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً مِنْ أَخْلاَقِهِ، وَيَأْمُرُنِي بِٱلإِقْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَىٰ نُورَ الْوَحْيِ وَٱلرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.

وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّهَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هٰذِهِ الرَّنَّةُ؟. فَقَالَ: هٰذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَىٰ مَا أَرَىٰ، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خَيْرٍ.

15- شرحه عليه السلام معجزة الشجرة 

وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَمَّا أَتَاهُ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ قَدِ أَدَّعَيْتَ عَظِيماً، لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ (أَهْلِ بَيْتِكَ)، وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيُّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ لَهُمْ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: وَمَا تَسْأَلُونَ؟. قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّىٰ تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ، أَتُوْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إِلَىٰٰ خَيْرٍ، وَأَنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ، وَمَنْ يُحَزِّبُ الأَحْزَابَ. ثُمَّ قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ فَٱنْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّىٰ تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ. فَوَٱلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِّياً، لانْقَلَعَتِ الشَّجَرَةُ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّىٰ وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَىٰ عَلَىٰ رَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَىٰ مَنْكِبِي، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ.

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَىٰٰ ذَلِكَ قَالُوا، -عُلُوّاً وَٱسْتِكْبَاراً-: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا، وَيَبْقَىٰ نِصْفُهَا، فَأَمَرَهَا بِذٰلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَأَشَّدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقَالُوا، -كُفْراً وَعُتُوّاً-: فَمُرْ هٰذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَىٰٰ نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأَمَرَهُ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَرَجَعَ.

16- أنه عليه السلام أول المؤمنين بالمعجزة

فَقُلْتُ أَنَا: لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ -يَا رَسُولَ اللهِ-، وَأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَىٰ- تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وَإِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ، فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هٰذَا، يَعْنُونَنِي.

وَإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لاَ تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الأَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ اللهِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَ يَعْلُونَ، وَلاَ يَغُلُّونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ.