الْحَمْدُ
للهِ عَلَىٰ مَا أَنْعَمَ،
وَلَهُ ٱلشُّكْرُ عَلَىٰ مَا أَلْهَمَ، وَٱلثَّنَاءُ بِمَا
قَدَّمَ، مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ ٱبْتَدَأَهَا، وَسُبُوغِ آلاَءٍ
أَسْدَاهَا، وَتَمَامِ مِنَنٍ وَالاَهَا، جَمَّ عَنِ
ٱلإِحْصَاءِ عَدَدُهَا، وَنَأَىٰ عَنِ الْجَزَاءِ أَمَدُهَا،
وَتَفَاوَتَ عَنِ ٱلإِدْرَاكِ أَبَدُهَا، وَنَدَبَهُمْ
لاسْتِزَادَتِهَا بِٱلشُّكْرِ لإِتِّصَالِهَا، وَٱسْتَحْمَدَ
إِلَىٰ الْخَلاَئِِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنَّىٰ بِٱلنَّدْبِ
إِلَىٰ أَمْثَالِهَا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ
اللهُ
وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ ٱلإِخْلاَصَ
تَأْوِيلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ
فِي ٱلتَّفِكِيرِ مَعْقُولَهَا، الْمُمْتَنِعُ مِنَ
ٱلأَبْصَارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ ٱلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ
ٱلأَوْهَامِ كَيْفِيَّتُهُ، ٱبْتَدَعَ ٱلأَشَيَاءَ لاَمِنْ
شَيْءٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنْشَأَهَا بِلاَ ٱحْتِذَاءِ
أَمْثِلَةٍ ٱمْتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ،
وَذَرَأَهَا بِمَشِئَتِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَىٰ
تَكْوِينِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ فِي تَصْوِيرِهَا، إِلاَّ
تَثْبِيتاً لِحِكْمَتِهِ وَتَنْبِيهاً عَلَىٰ طَاعَتِهِ،
وَإِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ،
وإِعْزَازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ ٱلثَّوَابَ عَلَىٰ
طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ الْعِقَابَ عَلَىٰ مَعْصِيَتِهِ،
ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِيَاشَةً لَهُمْ
إِلَىٰ جَنَّتِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمَّداً صَلَّىٰ
الله
عَلَيْهِ وَآلِهِ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ٱخْتَارَهُ وَٱنْتَجَبَهُ
قَبْلَ أَنْ إِجْتَبَلَهُ، وَٱصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ٱبْتَعَثَهُ،
إِذِ الْخَلاَئِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ ٱلأَهَاوِيلِ
مَصُونَةٌ، وَبِنِهَايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ
اللهِ
تَعَالَىٰ بِمَآيِلِ ٱلأُمُورِ، وَإِحَاطَةً بِحَوَادِثِ
ٱلدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَوَاقِعِ الْمَقْدُورِ، ٱبْتَعَثَهُ
اللهُ
إِتْمَاماً لأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلَىٰ إِمْضَاءِ حُكْمِهِ،
وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِيرِ حَتْمِهِ، فَرَأَىٰ ٱلأُمَمَ
فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَىٰ نِيرَانِهَا،
وعَابِدَةً لأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً
لله
مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ
اللهُ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ
الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَّىٰ عَنِ ٱلأَبْصَارِ غُمَمَهَا،
وَقَامَ فِي ٱلنَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، وَأَنقَذَهُمْ مِنَ
الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ
إِلَىٰ ٱلدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَىٰ ٱلطَّرِيقِ
الْمُسْتَقِيمِ.
ثُمَّ قَبَضَهُ
اللهُ
إِلَيْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَٱخْتِيَارٍ، وَرَغْبَةٍ
وَإِيثَارٍ، فَمُحَمَّدٌ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ تَعَبِ هٰذِهِ ٱلدَّارِ فِي رَاحةٍ،
قَدْ حُفَّ بِالْمَلاَئِكَةِ ٱلأَبْرَارِ، وَرِضْوَانِ
ٱلرَّبَّ الْغَفَّارِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ،
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَىٰ أَبِي، نَبِيَّهِ وَأَمِينِهِ عَلَىٰ الْوَحْيِ
وَصَفِيِّهِ، وَخِيَرَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَرَضِيِّهِ، وَٱلسَّلاَمُ
عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ
اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ.
ثُمَّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت:
أَنْتُمْ عِبَادَ
اللهِ
نُصْبُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَمَلَةُ دِينِهِ وَوَحْيِهِ،
وَأُمَنَاؤُ
اللهِ
عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَىٰ ٱلأُمَمِ، زَعِيمُ
حَقٌّ لَهُ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ
ٱسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ، كِتَابُ
اللهِ
ٱلنَّاطِقُ، وَالْقُرْآنُ ٱلصَّادِقُ، وَٱلنُّورُ ٱلسَّاطِعُ،
وَٱلضِّيَاءُ ٱللاَّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصَائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ
سَرَائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطٌ بِهِ
أَشْيَاعُهُ، قَائِدٌ إِلَىٰ ٱلرِّضْوَانِ ٱتِّبَاعُهُ،
مُؤَدٍّ إِلَىٰ ٱلنَّجَاةِ إِسْتِمَاعُهُ، بِهِ تُنَالُ حُجَجُ
اللهِ
الْمُنَوَّرَةُ، وَعَزَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ، وَمَحَارِمُهُ
الْمُحَذَّرَةُ، وَبَيِّنَاتُهُ الْجَالِيَةُ، وَبَرَاهِينُهُ
الْكَافِيَةُ، وَفَضَائِلُهُ الْمَنْدُوبَةُ، وَرُخَصُهُ
الْمَوْهُوبَةُ، وَشَرَائِعُهُ الْمَكْتُوبَةُ، فَجَعَلَ
اللهُ
ٱلإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ ٱلشِّرْكِ، وَٱلصَّلاَةَ
تَنْزِيهاً لَكُمْ مِنِ الْكِبْرِ، وَٱلزَّكَاةَ تَزْكِيَةً
لِلنَّفْسِ وَنَمَاءً فِي ٱلرِّزْقِ، وَٱلصِّيَامَ تَثْبِيتاً
للإِخْلاَصِ، وَالْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّينِ، وَالْعَدْلَ
تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَإِطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ،
وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً للْفُرْقَةِ، وَالْجِهَادَ عِزاً
لِلإِسْلاَمِ، وَٱلصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَىٰ ٱسْتِيجَابِ
ٱلأَجْرِ، وَٱلأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ،
وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وِقَايَةً مِنَ ٱلسَّخَطِ، وَصِلَةَ
ٱلأَرْحَامِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حَقْناً
لِلدِّمَاءِ، وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً
لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ
تَغْيِيراً لِلْبَخْسِ، وَٱلنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ
تَنْزِيهاً عَنِ ٱلرِّجْسِ، وَٱجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً
عَنِ ٱللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ ٱلسَّرِقَةِ إِيجَاباً
لِلْعِفَّةِ، وَحَرَّمَ ٱلشِّرْكَ إِخْلاَصاً لَهُ بِٱلرُّبُوبِيَّةِ،
فَـ
﴿اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾
وَأَطِيعُوا
اللهَ
فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّه
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾.
ثُمَّ قَالَتْ:
أَيُّهَا ٱلنَّاسُ! إِعْلَمُوا أَنِّي
فَاطِمَةُ، وَأَبِي مُحَمَّدٌ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلاَ أَقُولُ
مَا أَقُولُ غَلَطاً، وَلاَ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ﴾
فَإِنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أَبِي دُونَ
نِسَائِكُمْ، وَأَخَا ٱبْنِ عَمِّي دُونَ رِجَالِكُمْ،
وَلَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إِلَيْهِ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَبَلَّغَ بٱلرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِٱلنِّذَارَةِ،
مَائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ،
آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِياً إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّهِ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنةِ، يُكَسِّرُ
ٱلأَصْنَامَ، وَيَنْكُتُ الْهَّامَ، حَتَّىٰ ٱنْهَزَمَ
الْجَمْعُ وَوَلُّوا ٱلدُّبُرَ، حَتَّىٰ تَفَرَّىٰ ٱللَّيْلُ
عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ
زَعِيمُ ٱلدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ ٱلشَّيَاطِينِ،
وَطَاحَ وَشِيظُ ٱلنِّفَاقِ، وَٱنْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَٱلشِّقَاقِ،
وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ ٱلإِخْلاَصِ، وَنَفَرٌ مِنَ الْبِيضِ
الْخِمَاصِ،
﴿وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ
النَّارِ﴾ مُذْقَةَ ٱلشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ
ٱلطَّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلاَنِ، وَمَوْطِئَ ٱلأَقْدَامِ،
تَشْرَبُونَ ٱلطَّرَقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْقِدَّ وَالْوَرَقَ،
أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ
اللهُ
َتَعَالَىٰ بِمُحَمَّدٍ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ، بَعْدَ ٱللَّتَيَّا وَٱلَّتِي، بَعْدَ أَنْ
مُنِيَ بِبُهَمِ ٱلرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ،
وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ﴾
أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطَانِ، أَوَ فَغَرَتْ فَاغِرَةٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِي لَهَوَاتِهَا، فَلاَ
يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأُ صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَيُخْمِدَ
لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً فِي ذَاتِ
اللهِ،
مُجْتَهِداً فِي أَمْرِ
اللهِ،
قَرِيباً مِنْ رَسُولِ
اللهِ،
سِيِّداً فِي أَوْلِيَاءِ
اللهِ،
مُشْمِّراً نَاصِحاً، مُجِدّاً كَادِحاً، وَأَنْتُمْ فِي
رَفَاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ،
تَتَرَبَّصُونَ بِنَا ٱلدَّوَائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ
ٱلأَخْبَارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ ٱلنِّزَالِ، وَتَفِرُّونَ
مِنَ الْقِتَالِ.
فَلَمَّا ٱخْتَارَ
اللهُ
لِنَبِيِّهِ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ دَارَ أَنْبِيَائِهِ، وَمَأْوَىٰ
أَصْفِيَائِهِ، ظَهَرَ فِيكُمْ حَسَكَةُ ٱلنِّفَاقِ، وَسَمَلَ
جِلْبَابُ ٱلدِّينِ، وَنَطَقَ كَاظِمُ الْغَاوِينِ، وَنَبَغَ
خَامِلُ ٱلأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْمُبْطِلِينَ،
فَخَطَرَ فِي عَرَصَاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ ٱلشَّيْطَانُ رَأْسَهُ
مِنْ مَغْرِزِهِ هَاتِفاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ
مُسْتَجِيبِينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاَحِظِينَ، ثُمَّ
ٱسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً، وَأَحْمَشَكُمْ
فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً، فَوَسَمْتُمْ غَيْرَ إِبِلِكُمْ،
وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هٰذَا وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ،
وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمَّا يَنْدَمِلْ، وَٱلرَّسُولُ
لَمَّا يُقْبَرْ، ٱبْتِدَاراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ
﴿أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
فَهَيْهَاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَىٰ تُؤْفَكُونَ؟
وَكِتَابُ
اللهِ
بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَحْكَامُهُ
زَاهِرَةٌ، وَأَعْلاَمُهُ بَاهِرَةٌ، وَزَوَاجِرُهُ لاَئِحَةٌ،
وَأَوَامِرُهُ وَاضِحَةٌ، وَقَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِكُمْ، أَرَغَبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أَمْ بِغَيْرِهِ
تَحْكُمُونَ
﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ
بَدَلاً﴾
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا إِلاَّ رَيْثَ أَنْ تَسْكُنَ
نَفْرَتُهَا، وَيَسْلَسَ قِيَادُهَا، ثُمَّ أَخَذْتُمْ
تُورُونَ وَقْدَتَهَا، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَهَا،
وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتَافِ ٱلشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ،
وَإِطْفَاءِ أَنْوَارِ ٱلدِّينِ الْجَلِيِّ، وَإِخْمَادِ
سُنَنِ ٱلنَّبِيِّ ٱلصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ٱرْتِغَاءٍ،
وَتَمْشُونَ لأَهْلِهِ وَوَلْدِهِ فِي الْخَمْرِ
وَالْضَّرَاءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلَىٰ مِثْلِ حَزِّ
الْمُدَىٰ، وَوَخْزِ ٱلسِّنَانِ فِي الْحَشَا، وَأَنْتُمْ -
ٱلآنَ - تَزْعُمُونَ أَلاَّ إِرْثَ لَنَا
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أَفَلاَ تَعْلَمُونَ؟ بَلَىٰ
تَجَلَّىٰ لَكُمْ كَٱلشَّمْسِ ٱلضَّاحِيَةِ أَنِّي ٱبْنَتُهُ
أَيُهَا الْمُسْلِمُونَ أَأُغْلَبُ عَلَىٰ إِرْثِيَهْ.
يَا ٱبْنَ أَبِي قُحَافَةَ! أَفِي كِتَابِ
اللهِ
أَنْ تَرِثَ أَبَاكَ، وَلاَ أَرِثَ أَبِي؟ لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً فَرِيًّا، أَفَعَلَىٰ عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ
اللهِ
وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، إِذْ يَقُولُ
﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ وَقَالَ فِيمَا ٱقْتَصَّ
مِنْ خَبَرِ يَحْيَىٰ ٱبْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا ٱلسَّلاَمُ
إِذْ قَالَ رَبِّ
﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ
آلِ يَعْقُوبَ﴾
وَقَالَ
﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ وَقَالَ
﴿يُوصِيكُمُ
اللهُ
فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾
وَقَالَ
﴿إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ﴾
وَزَعَمْتُمْ أَلاََ حِظْوَةَ لِي، وَلاَ إِرْثَ مِنْ أَبِي!
أَفَخَصَّكُمُ
اللهُ
بِآيَةٍ أَخْرَجَ أَبِي مِنْهَا؟ أَمْ تَقُولُونَ، إِنَّ
أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لاَ يَتَوَارَثَانِ، أَوَلَسْتُ أَنَا
وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ
أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَٱبْنِ
عَمِّي؟ فَدُونَكَهَا مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً، تَلْقَاكَ
يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ
اللهُ،
وَٱلزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيَامَةُ، وَعِنْدَ
ٱلسَّاعَةِ يَخْسِرُ الْمُبْطِلُونَ، وَلاَ يَنْفَعُكُمْ إِذْ
تَنْدَمُونَ و
﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ
مُّقِيمٌ﴾.
ثُمَّ رَمَتْ بِطَرْفِها نَحْوَ ٱلأَنْصَارِ فَقَالَتْ:
يَا مَعْشَرَ ٱلنَّقِيبَةِ، وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ،
وَحَضَنَةِ ٱلإِسْلاَمِ! مَا هٰذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي؟
وَٱلسِّنَةُ عَنْ ظُلاَمَتِي؟ أَمَا كَانَ رَسُولُ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ أَبِي يَقُولُ (الْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي
وُلْدِهِ)؟ سَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلاَنَ ذَا
إِهَالَةً، وَلَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَقُوَّةٌ
عَلَىٰ مَا أَطْلُبُ وَأُزَاوِلُ! أَتَقُولُونَ مَاتَ
مُحَمَّدٌ صَلَّىٰ
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ؟!
فَخَطْبٌ جَلِيلٌ، ٱسْتَوْسَعَ وَهْنُهُ، وَٱسْتَنْهَرَ
فَتْقُهُ، وَٱنْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلَمَتِ ٱلأَرْضُ
لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ ٱلنُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ،
وَأَكْدَتِ ٱلآمَالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبَالُ، وَأُضِيعَ
الْحَرِيمُ، وَأُزِيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَمَاتِهِ،
فَتِلْكِ وَاللهِ
ٱلنَّازِلَةُ الْكُبْرَىٰ، وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَىٰ، لاَ
مِثْلُهَا نَازِلَةٌ، وَلاَ بَائِقَةٌ عَاجِلَةٌ، أَعْلَنَ
بِها كِتَابُ
اللهِ
-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- فِي أَفْنِيَتِكُمْ، فِي مُمْسَاكُمْ
وَمُصْبَحِكَمْ، هِتَافاً وَصُرَاخاً، وَتِلاَوَةً
وَأَلْحَاناً، وَلَقَبْلَهُ مَا حَلَّ بِأَنْبِيَائِهِ
وَرُسُلِهِ، حُكْمٌ فَصْلٌ وَقَضَاءٌ حَتْمٌ
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
إِيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أَأُهْضَمُ تُرَاثَ أَبِيَهْ،
وَأَنْتُمْ بِمَرْأَىٰ مِنِّي وَمَسْمَعٍ، وَمُنْتَدَىٰ
وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ ٱلدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ
الْخَبْرَةُ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَٱلأَدَاةِ
وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ ٱلسِّلاَحُ وَالْجُنَّةُ،
تُوَافِيكُمُ ٱلدَّعْوَةُ فَلاَ تُجِيبُونَ، وَتَأْتِيكُمُ
ٱلصَّرْخَةُ فَلاَ تُعِينُونَ، وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ
بِالْكِفَاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَٱلصَّلاَحِ وَٱلنُّخْبَةُ
ٱلَّتِي ٱنْتُخِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ ٱلَّتِي ٱخْتِيرَتْ!
قَاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَٱلتَّعَبَ،
وَنَاطَحْتُمُ ٱلأُمَمَ، وَكَافَحْتُمً الْبُهَمَ، لاَ
نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ،
حَتَّىٰ إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَىٰ ٱلإِسْلاَمِ، وَدَرَّ
حَلَبُ ٱلأَيَّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ ٱلشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ
فَوْرَةُ ٱلإِفْكِ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الْكُفْرِ، وهَدَأَتْ
دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَٱسْتَوْسَقَ نِظَامُ ٱلدِّينِ،
فَأَنَّىٰ حِرْتُمْ بَعْدَ الْبَيَانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ
ٱلإِعْلاَنِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ ٱلإِقْدَامِ، وَأَشْرَكْتُم
ْبَعْدَ ٱلإِيمَانِ؟
﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن
كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾.
أَلاَ قَدْ أَرَىٰ أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَىٰ الْخَفْضِ،
وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ،
وَخَلَوْتُمْ إِلَىٰ ٱلدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ ٱلضِّيقِ بِٱلسَّعَةِ،
فَمَجَجْتُمْ مَا وَعَيْتُمْ، وَدَسَعْتُمُ ٱلَّذِي
تَسَوَّغْتُمْ فَـ
﴿إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ
وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾
أَلاَ وَقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ عَلَىٰ مَعْرِفَةٍ مِنِّي
بِالْخَذْلَةِ ٱلَّتِي خَامَرَتْكُمْ، وَالْغَدْرَةِ ٱلَّتِي ٱسْتَشْعَرَتْهَا
قُلُوبُكُمْ، وَلَكِنَّهَا فَيْضَةُ ٱلنَّفْسِ، وَنَفْثَةُ
الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنَا، وَبَثَّةُ ٱلصُّدُورِ،
وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ، فَدُونَكُمُوهَا، فَٱحْتَقِبُوهَا
دَبِرَةَ ٱلظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، بَاقِيَةَ الْعَارِ،
مَوْسُومَةً بِغَضَبِ
اللهِ،
وَشَنَارِ ٱلأَبَدِ، مَوْصُولَةً بـ
﴿نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى
الأَفْئِدَةِ﴾
فَبعَيْنِ
اللهِ
ما تَفْعَلُونَ
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ وَأَنَا ٱبْنَةُ نَذِيرٍ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَاعْمَلُوا إنّا
عامِلُونَ وَٱنْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ.
فَأَجَابَهَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ
اللهِ
ٱبْنُ عُثْمَانَ، وَقَالَ:
يَا ٱبْنَةَ رَسُولِ
اللهِ،
لَقَدْ كَانَ أَبُوكِ بالْمُؤْمِنِينَ عَطُوفاً كَرِيماً،
رَؤُوفاً رَحِيماً، وَعَلَىٰ الْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً
وَعِقَاباً عَظِيماً، إِنْ عَزَوْنَاهُ وَجَدْنَاهُ أَبَاكِ
دُونَ ٱلنِّسَاءِ، وَأَخاً إِلْفِكِ دُونَ ٱلأَخِلاَّءِ،
آثَرَهُ عَلَىٰ كُلِّ حَمِيمٍ، وَسَاعَدَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ
جَسِيمٍ، لاَ يُحِبُّكُمْ إِلاَّ كُلُّ سَعِيدٍ، وَلاَ
يُبْغِضُكُمْ إِلاَّ كُلُّ شَقِيٍّ، فَأَنْتُمْ عِتْرَةُ
رَسُولِ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ ٱلطَّيِّبُونَ، وَالْخِيَرَةُ
الْمُنْتَجَبُونَ، عَلَىٰ الْخَيْرِ أَدِلَّتُنَا، وَإِلَىٰ
الْجَنَّةِ مَسَالِكُنَا، وَأَنْتِ يَا خَيْرَةَ ٱلنِّسَاءِ،
وَٱبْنَةَ خَيْرِ ٱلأَنْبِيَاءِ، صَادِقَةٌ فِي قَوْلِكَ،
سَابِقَةٌ فِي وُفُورِ عَقْلِكِ، غَيْرُ مَرْدُودَةٍ عَنْ
حَقِّكِ، وَلاَ مَصْدُودَةٍ عَنْ صِدْقِكِ، وَاللهِ
مَا عَدَوْتُ رَأْيَ رَسُولِ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَلاَ عَمِلْتُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَإِنِّ
ٱلرَّائِدَ
لاَ يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنِّي أُشْهِدُ
الله
وَكَفَىٰ بِهِ شَهِيداً، أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولِ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقُولُ: (نَحْنُ مَعَاشِرَ ٱلأَنْبِيَاءِ
لاَ نُوَرِّثُ ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ دَاراً وَلاَ
عِقَاراً، وَإِنَّمَا نُوَرِّثُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ،
وَالْعِلْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ، وَمَا كَانَ لَنَا مِنْ طُعْمَةٍ
فَلِوَلِيِّ ٱلأَمْرِ بَعْدَنَا أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ
بِحُكْمِهِ).
وَقَدْ جَعَلْنَا مَا حَاوَلْتِهِ فِي الْكُرَاعِ وَٱلسِّلاَحِ،
يُقَاتِلُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَيُجَاهِدُونَ الْكُفَّارَ،
وَيُجَالِدُونَ الْمَرَدَةَ الْفُجَّارَ، وَذٰلِكَ بِإِجْمَاعٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ أَنْفَرِدْ بِهِ وَحْدِي، وَلَمْ
أَسْتَبِدَّ بِمَا كَانَ ٱلرَّأْيُ فِيهِ عِنْدِي، وَهٰذِهِ
حَالِي وَمَالِي، هِيَ لَكِ، وَبَيْنَ يَدَيْكِ، لاَ تُزْوَىٰ
عَنْكِ، وَلاَ تَدَّخِرُ دُونَكِ، وَأَنْتِ سَيِّدَةُ أُمَّةِ
أَبِيكِ، وَٱلشَّجَرَةُ ٱلطَّيِّبَةُ لِبَنِيكِ، لاَ يُدْفَعُ
مَالَكِ مِنْ فَضْلِكِ، وَلاَ يُوضَعُ فِي فَرْعِكِ
وَأَصْلِكِ، حُكْمُكِ نَافِذٌ فِيمَا مَلَكَتْ يَدَايَ، فَهَلْ
تَرَيْنَ أَنْ أُخَالِفَ فِي ذٰلِكِ أَبَاكِ صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ؟
فَقَالَتْ عَلَيْهَا ٱلسَّلاَمُ:
سُبْحَانَ
اللهِ! مَا كَانَ رَسُولُ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ عَنْ كِتَابِ
اللهِ
صَادِفاً، وَلاَ لأَحْكَامِهِ مُخَالِفاً، بَلْ كَانَ يَتَّبعُ
أَثَرَهُ، وَيَقْفُو سُوَرَهُ، أَفَتَجْمَعُونَ إِلَىٰ
الْغَدْرِ ٱعْتِلاَلاً عَلَيْهِ بِٱلزُّورِ، وَهٰذَا بَعْدَ
وَفَاتِهِ شَبِيهٌ بِمَا بُغِيَ لَهُ مِنَ الْغَوَائِلِ فِي
حَيَاتِهِ، هٰذَا كِتَابُ
اللهِ
حَكَماً عَدْلاً، وَنَاطِقاً فَصْلاً، يَقُولُ
﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾
﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ فَبَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ
فِيمَا وَزَّعَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلأَقْسَاطِ، وَشَرَّعَ مِنَ
الْفَرَايِضِ وَالْمِيرَاثِ، وَأَبَاحَ مِنْ حَظَّ
ٱلذُّكْرَانِ وَٱلإِنَاثِ، مَا أَزَاحَ عِلَّةَ
الْمُبْطِلِينَ، وَأَزَالَ ٱلتَّظَنِّي وَٱلشُّبُهَاتِ فِي
الْغَابِرِينَ، كَلاَّ
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
صَدَقَ
اللهُ
وَصَدَقَ رَسُولُهُ، وَصَدَقَتْ ٱبْنَتَهُ، أَنْتِ مَعْدِنُ
الْحِكْمَةِ، وَمَوْطِنُ الْهُدَىٰ وَٱلرَّحْمَةِ، وَرُكْنُ
ٱلدِّينِ، وَعَيْنُ الْحُجَّةِ، لاَ أُبْعِدُ صَوابَكِ، وَلاَ
أُنْكِرُ خِطَابَكِ، هٰؤُلاَءِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنِيَ
وبَيْنَكِ، قَلَّدُونِي مَا تَقَلَّدْتُ، وَبِٱتِّفَاقٍ
مِنْهُمْ أَخَذْتُ مَا أَخَذْتِ، غَيْرَ مُكَابِرٍ وَلاَ
مُسْتَبِدٍّ، وَلاَ مُسْتَأْثِرٍ، وَهُمْ بِذٰلِكَ شُهُودٌ.
فَالْتَفَتَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا ٱلسَّلاَمُ إِلَىٰ ٱلنَّاسِ
وَقَالَتْ:
مَعَاشِرَ ٱلنَّاسِ، الْمُسْرِعَةِ إِلَىٰ قِيلِ الْبَاطِلِ،
الْمُغْضِيَةِ عَلَىٰ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الْخَاسِرِ
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلوبِكُمْ مَا أَسَأْتُمْ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ، فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ،
وَلَبِئْسَ مَا تَأَوَّلْتُمْ، وَسَاءَ مَا بِهِ أَشَرْتُمْ،
وَشَرَّ مَا مِنْهُ ٱعتَضْتُمْ، لَتَجِدَنَّ وَاللهِ
مَحْمِلَهُ ثَقِيلاً، وَغِبَّهُ وَبِيلاً، إِذَا كُشِفَ لَكُمُ
الْغِطَاءُ وَبَانَ مَا وَرَاءَهُ ٱلضَّرَاءُ، وَبَدَا لَكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ ما لَمْ تَكونوا تَحْتَسِبونَ
﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
ثُمَّ عَطَفَتْ عَلَىٰ قَبْرِ أَبِيهَا رَسُولُ
اللهِ
صَلَّىٰ
اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَقَالَتْ:
قَدْ كَانَ بَعْدَكَ أَنْبَاءٌ وَهَنْبَثَةٌ لَوْ
كُنْتَ شَاهِدَهَا لَمْ تَكْثُرِ الْخَطْبُ
إِنَّا فَقَدْنَاكَ فَقْدُ ٱلأَرْضِ وَابِلُهَا وَٱخْتَلَّ
قَوِمُكَ فَٱشْهَدْهُمْ وَقَدْ نَكِبُوا
وَكُلُّ أَهْلٍ لَهُ قُرْبَىٰ وَمَنْزِلَةٌ
عِنْدَ ٱلإِلهِ عَلَىٰ ٱلأَدْنَيْنِ مُقْتَرِبُ
أَبْدَتْ رِجَالٌ لَنَا نَجْوَىٰ صُدُورِهِمِ لَمَّا
مَضَيْتَ وَحَالَتْ دُونَكَ ٱلتُّرُبُ
تَجَهَّمَتْنَا رِجَالٌ وَٱسْتُخِفَّ بِنَا لَمَّا
فُقِدْتَ وَكُلُّ ٱلإِرْثِ مُغْتَصَبُ
وَكُنْتَ بَدْراً وَنُوراً يُسْتَضَاءُ بِهِ عَلَيْكَ
تُنْزَلُ مِنْ ذِي ٱلعِزَّةِ الْكُتُبُ
وَكَانَ جِبْرِيلُ بِٱلآيَاتِ يُؤْنِسُنَا فَقَدْ
فُقِدْتَ فَكُلُّ الْخَيْرِ مُحْتَجِبُ
فَلَيْتَ قَبْلَكَ كَانَ الْمَوْتُ صَادَفَنَا لِمَا
مَضَيْتَ وَحَالَتْ دُونَكَ الْكُثُبُ
إِنَّا رُزِينَا بِمَا لَمْ يُرْزَ ذُو شَجَنٍ مِنَ
الْبَرِيَّةِ لاَ عُجْمٌ وَلاَ عَرَبُ.
ثُمَّ ٱنْكَفَأَتْ عَلَيْهَا ٱلسَّلاَمُ وَأَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عَليْهِ ٱلسَّلاَمُ يَتَوَقَّعُ رُجُوعَهَا
إِليْهِ، وَيَتَطَلَّعُ طُلُوعَهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا ٱسْتَقَرَّتْ
بِهَا ٱلدَّارُ قَالَتْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ
ٱلسَّلاَمُ:
يَا ٱبْنَ أَبِي طَالِبٍ! ٱشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الْجَنِينِ،
وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ ٱلظَّنِينِ! نَقَضْتَ قَادِمَةَ
ٱلأَجْدِلِ، فَخَانَكَ رِيشُ ٱلأَعْزَلِ، هٰذَا ٱبْنُ أَبِي
قُحَافَةَ يَبْتَزُّنِي نِحْلَةَ أَبِي، وَبُلْغَةَ ٱبْنَيَّ،
لَقَدْ أَجْهَرَ فِي خِصَامِي، وَألْفَيْتُهُ ٱلأَلَدَّ فِي
كَلاَمِي، حَتَّىٰ حَبَسَتْنِي قَيْلَةُ نَصْرَهَا،
وَالْمُهَاجِرَةُ وَصْلَهَا، وَغَضَّتِ الْجَمَاعَةُ دُونِي
طَرْفَهَا، فَلاَ دَافِعَ وَلاَ مَانِعَ، خَرَجْتُ كَاظِمَةً،
وَعُدْتُ رَاغِمَةً، أَضْرَعْتَ خَدَّكَ يَوْمَ أَضَعْتَ
حَدَّكَ، إِفْتَرَسْتَ ٱلذِّئَابَ، وَٱفْتَرَشْتَ ٱلتُّرَابَ،
مَا كَفَفْتُ قَائِلاً وَلاَ أَغْنَيْتُ بَاطِلاً، وَلاَ
خِيَارَ لِي، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هِينَتِي، وَدُونَ
ذِلَّتِي، عَذِيرِيَ
اللهُ
مِنْكَ عَادِياً وَمِنْكَ حَامِياً، وَيْلاَيَ فِي كُلِّ
شَارِقٍ، مَاتَ الْعَمَدُ، وَوَهَنَ الْعَضُدُ، شَكْوَايَ
إِلَىٰ أَبِي، وَعَدْوَايَ إِلَىٰ رَبِّي، أَللّهُمَّ أَنْتَ
أَشَدُّ قُوَّةً وَحَوْلاً، وَأَحَدُّ بَأْساً وَتَنْكِيلاً.
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ ٱلسَّلاَمُ:
لاَ وَيْلَ عَلَيْكِ، الْوَيْلُ لِشَانِئِكِ، نَهْنِهِي عَنْ
وَجْدِكِ يَا ٱبْنَةَ ٱلصَّفْوَةِ، وَبَقِيَّةَ ٱلنُّبُوَّةِ،
فَمَا وَنَيْتُ عَنْ ديِنِي، وَلاَ أَخْطَأْتُ مَقْدُورِي،
فَإِنْ كُنْتِ تُرِيدِينَ الْبُلْغَةَ فَرِزْقُكِ مَضْمُونٌ،
وَكَفِيلُكِ مَأْمُونٌ، وَمَا أُعِدَّ لَكِ أَفْضَلُ مِمِّا
قُطِعَ عَنْكِ، فَٱحْتَسِبِي
اللهَ.
فَقَالَتْ:
حَسْبِيَ
اللهُ،
وَأَمْسَكَتْ. |